رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين، فيها نفي للشبه والمثل في سياق واحد، في دلالة واضحة، على نفي الشبه بين صفات الله تعالى وصفات خلقه من جميع الوجوه، وقد احتجّ بها من ينكر وجود أيّ شبه بين صفات الله وصفات خلقه.
وقد نبّهت في كتابي الصفات، في باب وقوع الشبه بين صفات الله وصفات خلقه، أنه لم يثبت خبر في نفي الشبه مع المثْل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من الصحابة أو التابعين فجميعها باطلة، من جهة الإسناد، فلا حجّة فيها لمحتجّ البتّة، وهنا تفصيل ذلك.
فمما روي في ذلك:
ما وراه الطبري في تفسير قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} يقول: هل تعلم للربّ مثلا أو شبيها. اهـ
قلت: وهذا أثر ضعيف الإسناد، علي، هو علي بن أبي طلحة، قيل عنه: "له أشياء منكرات، وضعيف الحديث، ومنكر، وليس بمحمود المذهب".
ومعاوية، هو معاوية بن صالح، كان يحيى بن سعيد لا يرضاه، وقال الرازي: لا يحتج به. وقال الأزدي: ضعيف. وله أحاديث صالحة، وهو صدوق إلا أنه يقع في أحاديثه إفرادات.
وقال الطبري: حدثني سعيد بن عثمان التنوخي، قال: ثنا إبراهيم بن مهدي، عن عباد بن عوام، عن شعبة، عن الحسن بن عمارة، عن رجل، عن ابن عباس، في قوله {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال: شبيها. اهـ
قلت: ومع أن هذا الأثر، لم يصرّح فيه بنفي المثل مع نفي الشبه، لنقول بانه نفى لشبه من جميع الوجوه، إلا أننا لو افترضنا أن هذا هو المراد بالنصّ، فإن الحسن بن عمارة، كان ضعيفا، واتهمه بعضهم بوضع الحديث، وقال عنه أخرون: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه، ومتروك.
ثم الحسن يرويه عن رجل مجهول.
وقال الطبري: حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن مجاهد في هذه الآية {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال: هل تعلم له شبيها، هل تعلم له مثلا تبارك وتعالى. اهـ
قلت: قال أهل العلم: مرويات الأعمش عن مجاهد أكثرها أباطيل، وكان يدلسها عن مجاهد، قيل أنه لم يروي عن مجاهد شيء، وقيل سمع منه أحاديث قليلة.
ويحيى بن إبراهيم صدوق، وأبوه وأبوه وجده لا يعرفون.
وقال الترمذي في جامعه: حدثنا أحمد بن منيع قال: حدثنا أبو سعد هو الصغاني، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص] فالصمد: الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله عز وجل لا يموت ولا يورث: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] قال: "لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء".
قلت: وحديث أبي بن كعب، حسن دون قوله: "فالصمد: الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله عز وجل لا يموت ولا يورث: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] قال: لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء".
وفي إسناد هذا الخبر، أبو سعد الصاغاني، قال ابن عدي، عن يحيى بن معين، عن الصاغاني: وكان جهميا وليس هو بشيْء كان شيطانا من الشياطين.
وقال أخرى: ضعيف.
وقال البخاري: فيه اضطراب.
وقال النسائي: متروك الحديث.
قال ابن عدي: "حدّثنا الْحسن بْن سفْيان، حدّثنا أحْمد بْن منيع، وأبو كامل، قالا: حدّثنا محمد بْن ميسر أبو سعد، حدّثنا أبْو جعْفر الرّازيّ عن الرّبيع، عن أبي الْعالية، عن أبي، قال: قال الْمشْركون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم انْسبْ لنا ربّك فأنْزل اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ}، فالصّمد الّذي لمْ يلدْ ولمْ يولدْ، لأنّه ليْس شيْء يولد إلاّ سيموت وليْس شيْء يموت إلاّ سيورّث واللّه لا يموت ولا يورّث ولمْ يكن له كفوا أحد. قال: "لمْ يكنْ له شبيه، ولا عدْل وليْس كمثْله شيْء".
قال الشيخ: وهذا لم يروه، عن أبي جعْفر بهذا الإسْناد غير أبي سعد هذا.
قلت: ومما يدل على أن هذه الزيادة من وضع أبي سعد الصاغاني، أن هذا الحديث روي عن عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وجابر بن عبدالله، وعبدالله بن سلّام. ومن التابعين: شقيق بن عبدالله، وسعيد بن جبير، والضحاك بن مزاحم، وعكرمة مولى ابن عباس، وقتادة بن دعامة، بل روي عن أبي العالية مرسلا، دون هذه الزيادة، الواردة في حديث أبي سعد الجهميّ.
وأما معنى السميّ في الآية الكريمة، فالسميّ من المساماة، والمساماة في لغة العرب، هي المماثلة، وليست المشابهة، تقول العرب: فلان سميّ فلان، أي: مثيله وعدله.
السّميّ : الـمُسامي، وهو المطاول والمفاخر.
وسميّ الشيء: موافقه في اسمه، أو نظيره.
وقال ابن فارس، عن النظير: "وهذا نظير هذا، من هذا القياس؛ أي إنّه إذا نظر إليه وإلى نظيره كانا سواء".
والنظير: المثْل في كل شيْء.
وورد في بعض المعاجم المؤلفة مؤخرا أنه يطلق على الشبيه نظير، وهو خطأ.
إذا: السمي والمثيل والندّ والنظير، معان مترادفة.
فلا يقال بحال، أن معنى السميّ، هو الشبيه!
وأما ما أثر عن بعض أئمة السنّة، إنكاره للشبه، وتكفيره للمشبّهة، فإنما مرادهم بذلك، الممثّلة، لأنه في لغة العرب، كل مثيل شبيه، وليس كل شبيه مثيل، فالشبه أعمّ، والمثْل أخصّ، يصح في اللغة ان يقال عن المثيل شبيه، ولا يصح أن يقال عن الشبيه مثيل، فكل مثيل شبيه، وليس كل شبيه مثيل، والدليل على ذلك، أنهم أثبتوا الشبه بين صفات الخالق وصفات المخلوق في الكثير من آثارهم، حتى في صفة الصورة، فمن لم يهده الله تعالى، يقرأ قولهم في نفي الشبه، فيظنهم ينفون الشبه من جميع الوجوه، وهذا باطل، فتجد أمثال هؤلاء محتار بين إثبات السلف للشبه وبين نفيهم للشبه، ولا يهتدي للحق من ذلك سبيلا، فتجده متحير، بين الإثبات والتفويض.
قال الترمذي في جامعه: "وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا التشبيه" اهـ
ومعنى قول إسحاق: هو أن المشبه، هو من مثّل صفات الله تعالى بصفات خلقه، بما فيها من كمال أو نقص، فهذا هو المشبّه عندهم، وكان الأولى تسميته بالممثّل، حتى لا يختلط الأمر على من يجيء بعدهم.
وهذا واضح من قولهم: "يد كيد .. سمع كسمع" والكاف هنا للتمثيل، والمكافئة، والندّيّة. ثم قولهم: "أو مثل يد .. أو مثل سمع" يريدون بذلك، أن يبيّنوا أن الكاف في قولهم: "يد كيد .. سمع كسمع" إنما يريدون بها المماثلة فقط.
لذلك فالمرجع في تأويل القرآن، هي الأحاديث النبويّة الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إلى لغة العرب، وما يفهمونه من معاني كلامهم، الفهم العربي الأميّ.
والآيات والأحاديث الصحاح المرفوعة، قاطعة بوجود الشبه بين صفات الله وصفات خلقه، وقد بيّنتها في كتابي: "الصفات".
بل لو صح هذا عن أحد من الصحابة أو التابعين، أو أحد من أئمة الدين، نفي الشبه من جميع الوجوه، لم يكن فيه حجّة، لأن قول الصحابي أو التابعي ومن بعدهم، لا يكون حجّة إلا إذا وافق الدليل الشرعي من الكتاب ومن السنة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان موافقا لمعاني كلام العرب الذي تعرفه من كلامها. فإن عارض شيئا من ذلك، لم يكن حجّة.
فكلام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن جاء بعدهم، إنما يستأنس به، فهو ليس بحجة، ولكنه يؤخذ به، إذا كانت الآيات والأحاديث المرفوعة ولغة العرب تؤيّده، وتصححه، وأما إن تعارض مع شيء من ذلك، فيجب اطّراحه.
هذا هو الحق، الذي يجب على الكل اتباعه، إن شاء الله تعالى.
وفي هذه المسألة، لم نجد هناك خبرا صحيحا عن النبي أو الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين، يخالف الحق الذي ورد في القرآن والسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويخالف معاني كلام العرب، مما يثبت بطلان تلك الأخبار، إلى من نسبت إليهم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.
وأما قول أئمة السنّة: "لا يقال في صفات الله كيف".
وقولهم: "أمروها بلا كيف".
وقولهم: "بلا كيف ولا معنى".
فمعناه: ألّا توضع لها كيفية، تخالف ما تبادر إلى الأذهان، من معانيها. فكما أنك لا تضع لها معان تخالف معانيها الظاهرة، التي تعرفها العرب من كلامها، فكذلك، لا تضع لها كيفية تخالف ما يتبادر إلى الأذهان من معانيها الظاهرة، التي تعرفها العرب من كلامها.
والدليل على ذلك، أنه ورد إثبات الكيفية لبعض صفات الله تعالى في القرآن والسنة النبوية الصحيحة.
كما ورد أن صورة الإنسان على صورة الرحمن، وأن لله وجه وعينان ويدان في كل يد خمسة أصابع وقدمان، وأن للقدمين كرسي يضع الله قدميه عليه، وأن الله يتكفؤ الأرض يوم القيامة كما يتكفؤ أحدنا خبزته، كل هذا تكييف لصفة الله تعالى.
ثم صفات الله تعالى، منها ما ورد في الوحيين بيان كيفيّته، فوجب إثبات هذا القدر، على المعنى الذي تعرفه العرب من كلامها، ومن صفات الله تعالى، ما لم يرد في الوحيين بيان كيفيته، فوجب السكوت عنه، وعدم الخوض فيه، بل يقال فيه: الله أعلم بكيفية تلك الصفات.
وهذا هو مذهب أئمة السنة، والدليل على ذلك، أنهم هم، من أخبرنا بكيفية بعض صفات الله تعالى، التي ثبتت كيفيتها بنص الوحيين، كالصورة والجلوس على العرش ونحو ذلك.
وأما ما أثر عن مالك في استواء الله تعالى على عرشه، في قوله: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول" .. إلخ.
فأقول: إن قول مالك رحمه الله تعالى: "والكيف غير معقول" ليس نصّا شرعيا، وإنما هو رأي مالك، بحسب ما أداه إليه اجتهاده، وهذا إن كان مراده بنفي الكيفية هنا، نفي الهيئة، أو نفي الكيفية من جميع الوجوه، وهذا قول، ترده الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة والحسنة، الدالة على إثبات كيفية كثير من صفات الله تعالى، ومنها الجلوس على العرش، فجلوس ملوك الأرض على عروشهم، يشبه جلوس الله تعالى على عرشه في الكيفية، لما ثبت أن صورة الإنسان تشبه صورة الله تعالى، ولما ثبت أن لله عرشا يجلس عليه، وأن له قدمان، وأن لقدميه كرسي يضعهما عليه، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض صالحي عباده إن شاء الله، لربهم في صورة شاب، وبعضهم، رآه جالساً على عرشه، كما يجلس ملوك الإنس على عروشهم.
ومع ذلك، فإنه يمكن توجيه قول مالك، بما لا يخالف النصوص الشرعية، إذ يظهر لي، أن مراده، أن استقرار الله على عرشه، أكمل من استقرار البشر على عروشهم، وهذا لا يمكن معرفة كيفيته، لعدم وجود نصّ شرعي في ذلك، إلّا بالظن والتخمين.
وقس على هذا، جميع صفات الله تعالى.
والله وحده أعلم وأحكم.