وما السبب الذي جعل كبار علماء السلفية يجهلون معنى هذه الآية، مع شِدّة وضوحه وبيانه، لأصغر صبيٍّ عربيّ؟
السبب: هو اطراح هؤلاء "العلماء" على كتب المتكلمين، من تفاسير للقرآن أو شروح للحديث، أو كتب في العقائد.
وهناك أمثلة كثيرة على هذا الانحراف، عند كبار علماء لسلفية، فهذا عمر نب عبدالبر، يتأول قرابة تسع صفات على غير مذهب السنة.
وحتى أني أذكر أن الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وهو يعتبر أكبر علماء السلفية في زمانه، لما سُئِل عن تأويل حديث الصورة، نقل كلام ابن حجر العسقلاني ذاك الأشعري الجهمي بحذافيره ال`ي أورده في كتابه الشِرِّير حقيقة الذي أسماه فتح الباري بشرح صحيح البخاري.
وأذكر مرَّة أني كنت أبحث عن ما قاله الشُرّاح في حديث: "فاستأذن على الله في داره" كان الحديث بالنسبة لي واضح، ولكن أحببت أن انظر ماذا قال فيه الشُرَّاح، حتى أعرف قول المتكلمين فيه، لأحذره أو ارد عليه، أو أنظر ما قاله فيه المنتسبون إلى المدرسة السلفية لعل عندهم إضافة جيدة لم أنتبه لها.
ولكن مع الأسف لم أجد شيئاً، سوى التحايل على إسقاط هذه اللفظة، وتحريف معنى الحديث، حتى من السلفيين أنفسهم، أُسْوَةً بأئمتهم المتكلمين.
حتى أن أحد أتباع المدرسة السلفية في موقع الألوكة، وهو موقع يسير على منهج السلفية المعاصرة، بتناقضاتها وأعاجيبها، يريد أن يرد على اعتراض معترضٍ، استعظم ما ورد في هذا الحديث، من أن لله تبارك وتعالى داراً يسكنها في السماء.
طبعاً السائل كان متكلماً، وهو يريد بهذا الاعتراض، أن ينتصر لمنهج أصحابه في أن الأحاديث لا تؤخذ على ظاهرها وإنما تأوَّل.
فأخذ هذا المُتأسلِف، يرد عليه، ويقول: بأن هذا الحديث، ضعف بعض العلماء هذه اللفظة، وبعضهم تأوله، ثم أخذ ينقل كلام كبراء المتكلمين، مثل ابن بطال وابن حجر وغيرهم.
فأخذ يرد على المعترض بكلام كبراء هذا المعترض، الذي ما اعترض المعترض على حديث الدار، إلّا لينتصر لمهذهب هؤلاء القوم، الذي هذا المتأسلف ينقل كلامهم له!!
فهذا من الأعاجيب.
كيف ترد على رجلٍ بما يريد أن يصل بك إليه!
حتى أن عادل آل حمدان، ألف كتاباً بعنوان: "التنبيهات الجلية على الأخطاء العقدية في شروح كتب السنة النبوية في كتابي : 1- تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 2- عون المعبود شرح سنن أبي داود".
مع أن مؤلفي هذين الشرحين، محسوبان على المدرسةالسلفية!
كلّ هذا بسبب اطّراح القوم على كتب المتكلمين، وتأثرهم بما فيها من خُزُعبلات، وأباطيل.
وهذا ما نبّه عليه عادل نفسه، في تنبيهاته.
وعلى ذكر عادل آل حمدان.
عادل ىل حمدان، له جهودٌ جبّارة في هذا المجال، وإن كان يغلو في قبوله لآثار السلف، مع ما فيها من تناقض، بدعوى أننا لو رددنا ما رووه، رميناهم بانهم لا يحسنون الرواية أو ليس لديهم بصيرة في التمييز بين الأخبار، والحقيقة أن شريحة كبيرة من رواة الأخبار، حطّاب ليل وجرَّاف سيل، كل ما وجدوه يوافق عقيدتهم التي ورثوها عن مشايخهم رووه في كتبهم، وإن تناقض، واستحال الجمع بينها، أو كان حتى موضوعاً.
والأمثلة على ذلك كثيرة.
منها روايتهم لحديث حملة العرش الأربعة، ثم روايتهم لحديث الأوعال.
أحاديث لا يمكن الجمع بينها.
وكذلك روايتهم لحديث الاستلقاء، وأن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض استلقى على قفاه، ووضع قدماً على الأخرى، وتعليلهم نهي النبي عن الاستلقاء ووضع رجل على الأخرى بأنه لا ينبغي لأحد أن يتشبه بالله في ذلك!
وهذا حديث كذب، لأن النهي عن الاستلقاء ووضع رجل على الأخرى، وردت فيه أحاديث صحيحة ليس فيها أن الله فعل ذلك، فضلاً عن أن ينهى عن ذلك لأنه فعله!
إنما نهي عنه لأن عورة الرجال تبدو بسبب ذلك، لأنهم لم يكونوا يرتدون السراويل إلا نادراً، فنهى النبي عن الاستلقاء أو الاحتباء، لأن هذا كله يؤدي إلى كشف العورة.
ثم إننا مطالبون بالتشبه بالله تعالى في صفاته، ما لم ننهى عن شيء منها، فالله كريم فيجب أن نكون كرماء، والله رحيم، فيجب أن نكون رحماء، الله لطيف، فيجب أن نكون لطفاء،
فبناء على هذا الحديث، قياساً، يجب أن لا نكون كرماء ولا رحماء ولا لطفاء، لأننا بذلك نتشبه بالله تعالى!
وهذا هراء.
وفوق هذا كله، فالله ذكر لنا أنه استوى على عرشه، والاستواء على العرش شيء،و الاستلقاء شيء أخر.
إلى غير ذلك من الأحاديث.
وكما قتل سابقاً واقو للاحقاً، لا سبيل إلى فهم هذا الدين بعد القرآن إلا من خلال الأحاديث، ولكن الأحاديث تحتاج إلى حاذق يقوم بغربلتها، وتمييز ما يقبل منها وما لا يقبل.
خرجنا عن موضوعنا قليلاً.
فأقول: أنه وبسبب اطّراح علماء السلفية على كتب المتكلمين، صارت عندهم فساد كبير في معرفة معاني كتاب الله تعالى.
فإنك تجدهم يضلُّون في معرفة معنى آية من أوضح الآيات، لا لشيء، إلا لأنهم قراوا في التفسير الفلاني للمتلكم الفلاني أن معناها كيت وكيت،
فيأتي هذا المتكلم الجاهل في تفسيره، ويحرّف معناها الصحيح، لكي إما أن يجيّرها لصالح مذهبه، أو يجعلها غير متعارضة مع مذهبه.
والناس صنفان عرب وعجم، فالعجم لا يعقلون من لغة العرب إلا ما تلقّوه تلقيّاً ممن ينتسب إلى العلم والفقه.
والعرب، على قسمين: مستعجم، وهم من خالط العجم، وتثقف بثقافتهم وتزيا بزيهم، وإن كان لسانه عربياً، ولكنه صار كالأعجمي الذي لا يعرف من لغة العرب إلا التلفّظ بها، دون معرفة بأساليب العرب في كلامها وعاداتها فيه.
والقسم الأخر عربي عربي، تجده من عرب الحجاز أو نجد، ومع ذلك قليل عقل قليل فهم، بليد طبع، وضعيف إدراك. يطّرح على كتب القوم ممن ينتحلون العلم، فيأخذ عنهم حتى معاني كلامه الذي يتداوله في محيطه! فهو بهذا يصبح من مستعجمة العرب.
مثال ذلك ضياعهم في معنى قوله تعالى: (ليس كمثله شيء)
هذه الآية، من أوضح الآيات عند العرب، ولا يزال العرب يستخدمونها إلى يومنا هذا في كلامهم.
فهذه الجملة من أوضح الجمل معناً.
فالعرب عندما ترى شخصاً قد برز في صفاته أو في صفة من صفاته على غيره، يقولون: فلان ليس كمثله أحد، في شجاعته، أو في كرمه، أو في شهامته ونخوته. ونحو ذلك.
وإن كان متفرّداً في جميع صفاته على من حوله قالوا: فلا ليس كمثله أحد، وأطلقوا هذه الصفة ولم يقيدوها بصفة من الصفات.
ما معنى قولهم هذا؟
هل يريدون بذلك أن فلان هذا لا يماثل ولا يشبه أحد من الآدميين في صفاته، وأن كل ما خطر ببالنا فهو بخلافه، وأن صفاته لا تمثل ولا تشبه ولا تحرف ولا تُأوَل ولا تكيَّف؟!
بالطبع لا.
هم لا يعنون ذلك مطلقاً.
وإنما يعنون بذلك، التنبيه على التباين في كمال الصفات، بين هذا الشخص وغيره من الأشخاص، فقط.
إذاً هذه الآية تعني أن الله تبارك وتعالى، لا يماثله أحدٌ في كمال صفاته، ليس في بيئة دون بيئة أو موضع دون موضع، بل في جميع العوالم التي يملكها. لان الله تعالى مشرف على جميع العوالم التي خلقها، مهيمنٌ عليها.
وبذلك عندما نقول بأن الله ليس كمثله شيء، لا نخص بذلك موضع دون موضع أو عالم دون عالم، بل على جميع المواضع والعوالم.
وتذكروا أن الله تعالى قال: "ليس كمثله" ولم يقل: "ليش كشبهه"
فالبعض ومنهم سلفيون يفسِّر هذه الآية تفسيرا أعمى أخر، وهو أن هذه الىية - بزعمه - تعني أن الله لا يشبه أحداً من خلقه من جميع الوجوه!!
ثم يتوصّلون بذلك إلى نفي إستطاعة إدراك الكيفية مطلقاً، بناء على أن الله لا يشبه أحداً من خلقه من جميع الوجوه!
فاحتجوا بهذه الآية، على نفي الشبه ونفي الكيف معاً.
والحقيقة أن هذا باطل، فإن الله لم ينفي سوى التماثل، ولكنه لم ينفي الشبه.
فبين المثل والشبه فرق لا يدركه مستعربة العجم ولا مستعجمة العرب،
فأولا التماثل والتشابه لا يقع إلا فيما اتفق في معناه من الصفات.
وإلا فكيف يتم التمثيل أو التشبيه بينهما!
ثم المثيل هو النظير هو الكفء هو النِدّ هو السَميّ، فالتماثل بين شيئين، يلغي جميع الفوارق بين المتماثلين في الصفة.
بينما التشابه بين شيئين، يراد به أنهما متوافقان في بعض جوانب الصفة ومختلفان في بعض جوانبها الأخر.
والذين احتجوا على تعطيل صفات الباري والذين احتجوا على عدم استحالة إدراك كيفية صفات الله تعالى، إنما احتجوا بهذه الآية، فإذا ثبت أن هذه الىية لا تدل على ما أرادوا، وأن احتجاجهم بها خطأ،
فأين الدليل على تعطيل صفات الباري سبحانه وعلى استحالة عدم إدراك كيفية صفات الله تعالى؟
والجواب: لا يوجد دليل.
وبالتالي نقول، بأن صفات الله تعالى ثابتة، بالنصّ، وأنه يمكننا إدراك كيفية صفات الله تعالى، التي بيّن لنا الله عز وجل ورسوله كيفيتها، بوضوح، من خلال ما ورد في الكتاب والسُنَّة.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم وأحكم.