الرد على المرجئة - الحلقة الأولى

الفصل الأول: وهي في بيان ما يستلزم إقامة الحجة من مسائل الدين وما لا يستلزم، وما يكفر به وما لا يكفر.

اعلم أن مسائل الدين تنقسم إلى قسمين:

قسم يدرك بالعقل والفطرة، فهذا لا يحتاج إلى إقامة الحجة الرساليّة عليه، كون العقل والفطرة هي الحجة فيه.

وقسم لا يدرك إلّا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتاج على إقامة الحجّة الرساليّة عليه، لأنه لا يمكن إدراكه بالعقل ولا بالفطرة.

وكلا القسمين، ينقسم أيضاً إلى قسمين:

قسم يكفر فيه المخالف سواء بدون إقامة الحجة الرساليّة فيما يدرك بالعقل والفطرة، أو بعد إقامة الحجّة الرساليّة، فيما لا يمكن إدراكه بالقل والفطرة.

وقسم لا يكفر فيه المخالف، سواء بدون إقامة الحجة الرسالية، فيما يدرك بالعقل والفطرة، أو بعد إقامة الحجّة الرساليّة، فيما لا يمكن إدراكه بالعقل والفطرة.

فأما القسم الذي يدرك بالعقل والفطرة، ولا يحتاج إلى إقامة الحجة الرساليّة عليه، كون العقل والفطرة هي الحجة فيه، ويكفر المخالف فيه بدون إقامة حجة رساليّة، فهو: 

توحيد كمال الصفات، وتوحيد الربوبيّة، وتوحيد الألوهية، ويندرج تحت توحيد الربوبيّة: توحيد الملك، وتوحيد الخلق، وتوحيد الأمر والتدبير.

فمن زعم أن لله تعالى ندّاً في كمال صفاته، وخصوصاً القوّة والقدرة، أو أشرك مع الله إلهاً غيره، في ملكه أو زعم أن هناك خالقاً يخلق مع الله تعالى، أو شريكاً في أمره وتدبيره، أو صرف له الدعاء والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة، فيما لا يقدر عليه إلّا الله تعالى، أو تقرّب لمخلوق بالذبح والنذر، ليقضي له شيئاً من حوائج الدنيا أو الأخرة، لا يقدر على قضائها إلا الله عز وجل، فهذا كافر، ولو ادعى الإسلام، وصلى وصام وحج البيت الحرام، وسواء بلغته الحجة أم لم تبلغه.

وهناك ما هو أعظم من الشرك، مثل: إنكار وجود الله تعالى، أو الإقرار بوجوده، مع سبّه أو شتمه، أو لعنه، تعالى الله وتقدس، أو التكبر عليه، والإعراض عن الهدى الذي جاء به، وبعث به رُسُلَه، أو أدعاء أن هناك من هو أكمل في صفاته من الله تعالى، فهذه أعظم من الشرك.

والدليل على ذلك: أن العقل والفطرة، تحيل أن يكون للمخلوق قوّة وقدرة، فوق قوّة وقدرة المخلوقات، بمعنى، أنها لا تملك قوىً خارقة للعادة، كون هذه المخلوقات محكومة بقوانين معيّنة لا تخرج عنها، فبالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن أن الصنم قادر على سماعنا وإجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عما لا يقدر عليه في الحقيقة إلا الله عز وجل. وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن أن الحجر أو الشجر قادرة على سماعنا، وإذا كانت تسمعنا، فهي غير قادرة على إجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عمّا لا يقدر عليه في الحقيقة إلّا الله عز وجل. وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن يظن أن مخلوقاً ميّتاً، قادر على سماعنا وإجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عما لا يقدر عليه في الحقيقة إلا الله عز وجل، وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن بأن مخلوقاً يقيم في مكان بعيد، قادر على سماعنا وإجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عما لا يقدر عليه في الحقيقة إلا الله عز وجل، وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن ان نظن أن مخلوقاً عاجزاً عن الحركة، قادر على إجابة دعائنا، فيما يحتاج إلى الحركة والنهوض، وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن أن مخلوقاً قادراً على إحياء الموتى، أو إنزال المطر، أو أنه قادر على أن يهب الأطفال للآباء والأمهات، أو أن ييسّر الرزق.

فمن يسأل مخلوقاً والحالة كما وصفت، فهذا يعني أنه يعتقد فيه قوة وقدرة فوق عادة المخلوقات، بحيث يستطيع ما لا يستطيعه عامة المخلوقات، وبالتالي جعله ندّاً لله تعالى في كمال صفتي القوة والقدرة، وإن زعم أنه لم يفعل، ولكنه فعل في الحقيقة، كونه استجاز أن يسأل من ذلك المخلوق، جميع ما يسأله من الله تعالى، بلا تفريق.

فكانت دلالة العقل والفطرة في هذه المسألة كافية في إقامة الحجة على هؤلاء، وإن لم يبعث رسول ولم ينزل كتاب.

وأما القسم الذي يدرك بالعقل والفطرة، ولا يحتاج إلى إقامة الحجة الرساليّة عليه، كون العقل والفطرة هي الحجة فيه، ولكن فاعله لا يكفر ولا يخرج من الإسلام، وإنما هو عاصٍ لله تعالى، فهي:

القتل بغير وجه حق، واللواط، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، بالغش والخداع والمكر، والاغتصاب، وظلم الناس وقهرهم، بأي نوعٍ من أنواع الظلم.

فمن ارتكب شيئاً من ذلك، فهو عاصٍ ومستوجب للعقوبة الإلهيّة، وإن لم تبلغه الحجة الرساليّة في تحريم ذلك، كون العقل والفطرة، هي الحجة فيها.

والدليل على ذلك: ما رُوي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر".

رواه البخاري ومسلم.

فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أن الرجل سوف يؤاخذ بما عمل في جاهليّته، من القتل بغير وجه حق، والسرقة واللواط، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، بالغش والخداع والمكر، والاغتصاب، وظلم الناس وقهرهم، بأي نوعٍ من أنواع الظلم. ولم يعذر بجهله، ولا بعدم بلوغ الحجّة الرساليّة له، كون العقل والفطرة هي الحجّة في قبح هذه الأعمال وفسادها، وإذا كان هذا حال القاتل واللوطي والسارق واضرابهم، فكيف بالمشرك، الذي ذنبه أعظم من ذنوب هؤلاء وأشنع وأفجر! فهذا الحديث دللي أيضاً على أن المشرك لا يعذر بأي عذر من الأعذار، وأن الحجّة العقليّة والفطريّة قائمة عليه، وأنه مؤاخذ بلك وإن لم تبلغه الحجّة الرساليّة.

وعن زيد بن ثابت قال: ينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه".

رواه مسلم.

فانظر، كيف أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن هؤلاء المقبورون، يعذبون في قبورهم، حتى حادت بغلته عنها وكادت أن تلقيه، وقد يكونون يعذبون على الشرك، أو على ما اقترفته أيديهم في الجاهلية، من القتل بغير وجه حق، أو السرقة وأكل أموال ناس بالباطل والاغتصاب وظلم الناس، وسوء الأخلاق، مع أنهم ماتوا قبل بعثة النبي، ولم تبلغهم الحجّة الرساليّة.

وأما القسم الذي لا يدرك إلّا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحتاج على إقامة الحجّة الرساليّة على المخالف فيه، لأنه لا يمكن إدراكه بالعقل ولا بالفطرة، والمخالف فيه يكفر بعد إقامة الحجة الرساليّة عليه، فهي:

الإيمان بالملائكة والجنّ والرسال والكتب المنزلة عليهم والبعث واليوم الأخر والقدر خيره وشرّه. وما افترضه الله تعالى من العبادات، والمعاملات، والأقضية، وسائر الشرائع.

فمن جحد شيئاً من ذلك جهلاً منه، لم يكفر، حتى تقام عليه الحجّة الرساليّة، فإن جحد ذلك بعد إقامة الحجة الر ساليّة عليه، فهو كافر الكفر الأكبر، فيما قلّ منه أو كثر.

فإن لم يجحد ذلك بعد إقامة الحجّة الرساليّة عليه، ولكن ترك العمل فيما يجب العمل به، من العبادات وسائر الشرائع، فهو عاصٍ وليس بكافر.

ما عدا الصلاة، لورود النصّ الشرعي، بان تارك الصلاة كافر، سواء جحد أنها فرض من الله أو لم يجحد ذلك، فتارك الصلاة يكفر مطلقاً بعد إقامة الحجة الرساليّة عليه.

والدليل على ذلك: ما روي عن حذيفة بن اليمان قال: يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها. فقال له صلة بن زفر، رجلٌ من أصحاب حذيفة: ما تغني عنهم: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة، تنجيهم من النار ثلاثا.

رواه ابن ماجه.

فهذا الحديث، يدل على أن من لم يبلغه الخبر في العبادات وما يشبهها، كالمعاملات، وسائر الشرائع، ما خلا التوحيد، فهو معذور بجهله، حتى تقام عليه الحجة الرساليّة.

وأما القسم الذي لا يدرك إلّا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحتاج على إقامة الحجّة الرساليّة على المخالف فيه، لأنه لا يمكن إدراكه بالعقل ولا بالفطرة، والمخالف فيه لا يكفر بعد إقامة الحجة الرساليّة عليه، ولكنه عاصٍ لله تعالى، ومستوجب للعقوبة الإلهيّة، فهي: جميع العبادات والمعاملات والأقضية وسائر الشرائع، شرط أن لا يجحدها ولا يستحل شيئاً منها، فمن جحد شيئاً منها أو استحل ما حرّم الله عز وجل، فقد كفر الكفر الأكبر، لجحده ما فرضه الله تعالى، ولاستحلاله ما حرم الله عز وجل، ولكن لا يكفر إلا بعد إقامة الحجة، ما عدا الصلاة، على ما سبق وأن بيّنت.

والدليل على ذلك: قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰۤ إِثۡمًا عَظِیمًا﴾ [النساء] 

فأخبر الله تعالى أن كل شيء دون الشرك، فهو معصية، والواقع فيها مستوجب للعقوبة، إلّا أن يعفو الله عنه.

صفة الكلام والرد على الجهمية

الله تبارك وتعالى متكلِّم، وكلامه بصوت وحرف، والدليل من القرآن العظيم والسنّة النبويّة الصحيحة واللغة والعقل.

قال الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِیما﴾ [النساء]

وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاۤءَ مُوسَىٰ لِمِیقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ﴾ [الأعراف]

وزعم الجهمية الأشاعرة وإخوانهم الجهميّة الماتريدية، أن كلام الله ليس صوتاً ولا حرفاً، ولا يتعاقب ولا يتتالى، وأنه حديث نفس، ثم يكابرون ويقولون عن حديث النفس بأنه: كلام!

وهذا قول لم توافقهم عليه إخوانهم الجهميّة المعتزلة، بل عارضوهم عليه، وأنكروه عليهم، فقد كفانا شهادة إخوانهم المعتزلة على صحة قولنا، بأن الأشاعرة والماتريدية، يكذبون عندما يصفون حديث النفس بأنه كلام!

فكيف وقد شهد الله وشهد رسوله وأهل اللغة على كذبهم!

فما سوف نبيّنه من أدلة في الرد على قول الأشاعرة والماتريدية، في أن حديث النفس ليس كلاماً، يتضمّن إثبات أن كلام الله تعالى بصوت وحرف، وأنه يتعاقب ويتتالى، مما يتضمّن الرد على المعتزلة الذين يدّعون أن الله لا يتكلم!

فالله تبارك وتعالى في كتابه العزيز فرّق بين الكلام الذي هو صوت وحرف وبين حديث النفس.

فقال تعالى عن مريم: ﴿إِنِّی نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ صَوۡما فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡیَوۡمَ إِنسِيّا﴾ [مريم]

فأمرها الله تعالى أن تصوم عن كلام قومها فلا تخاطبهم بصوت وحرف، ثم قال تعالى مخبراً عنها: ﴿فَأَشَارَتۡ إِلَیۡهِۖ﴾ [مريم] أي أشارت إلى قومها أنها صائم عن الكلام، وأن عليهم أن يكلموا الصبي، والإشارة هنا لا يمكن أن تكون إلا بحديث نفس، فإذا كان حديث النفس كلام -كما يزعم الأشاعرة والماتريدية- لم يجز لها أن تحدثهم حديث نفس، لكونها صائمة عن الكلام. 

فإن قال قائل: إنما صامت عن الكلام بصوت. فالجواب: هذا كلام تقولونه لترقّعوا به قولكم، ثم إنه وحسب الآية صامت عن مطلق الكلام، ولم تحدِّد، فلو كان هناك كلام بصوت وكلام بغير صوت، لقالت: (فلن أكلم اليوم إنسيَّا بصوت) وبما أنها لم تقيد صومها عن الكلام، بصوت، وإنما أشارت بأنها سوف تصوم عن الكلام، ثم حدَّثت قومها بحديث نفس أثناء إشارتها لهم إلى الغلام، تبين أن الكلام لا يكون إلا بصوت، وأن حديث النفس ليس كلاما.

وقال تعالى عن زكريا عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّیۤ ءَایَة قَالَ ءَایَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَیَّامٍ إِلَّا رَمۡزاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِیرا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِیِّ وَٱلۡإِبۡكَـٰرِ﴾ [آل عمران] 

وقال تعالى مخبراً عن زكريا: ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰۤ إِلَیۡهِمۡ أَن سَبِّحُوا۟ بُكۡرَة وَعَشِيّا﴾ [مريم]

وقوله: (وسبِّح بالعشي والإبكار). وقوله: (أوحى إليهم) أي: أشار إليهم أن يسبحوا الله بكرة وعشيا. هي أحاديث نفس، فلا تكون الإشارة إلّا أحاديث نفس، فلو كان حديث النفس كلاما -كما تزعم الأشاعرة والماتريدية- لم يجز له أن يشير إليهم بشيء.

والدليل على ذلك من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم".

رواه البخاري ومسلم.

فهذا الحديث، دليل صريح قاطع، على أن حديث النفس ليس كلاماً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، فرّق بين حديث النفس، وبين الكلام.

فأبى الظالمون إلّا أن يجعلوا حديث النفس كلاماً، مُكابرة للحقيقة، ومُعارضَة للشريعة!

ومن حجج السنة على أن الله يتكلم بصوت يسمع وحرف ينطق، ما رواه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة".

فدلّ هذا الحديث على أن الله يكلّم عباده بصوت يسمع وحرف يفهم، بدلالة قوله: أنه ليس بينه وبينهم ترجمان، وهؤلاء الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة يزعمون أن الله تعالى لا يتكلم بحرف وصوت وأنه يخلق صوتاً يكون ترجماناً بينه وبين خلقه يترجم لهم ما يحدِّث به نفسه!

وأما الأدلة من اللغة.

فقد قال صاحب دليل السالك: "الكلام لغة: اللفظ الموضوع لمعنى مفيداً أو غير مفيد. واصطلاحاً: اللفظ المفيد، والمراد بالمفيد ما يفهم منه معنى يحسن السكوت عليه. بحيث لا يبقى السامع منتظراً لشيء آخر. مثاله: الله ربنا، ومحمد نبينا. وقوله: "اللفظ": أي الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية، بخلاف الإشارة، والكتابة، وعقد الأصابع، ونحو ذلك، فلا يسمى كلامًا عند النحاة. وقوله: "المفيد": يخرج الكلمة المفردة نحو: خالد، والمركب الإضافي نحو: أبو عبد الله، والإسناد المتوقف على غيره نحو: إنْ قدم هشام..، فإن الاقتصار على مثل ذلك لا يفيد. وأقل ما يتألف منه الكلام: اسمان مثل: الغيبة محرمة. أو فعل واسم مثل: جاء الحق".

فوصف الكلام بأنه لفظ، واللفظ لا يكون إلّا بصوت.

وقال ابن منظور في لسان العرب نقلا عن ابن سيده: "الكلام القَوْل، معروف، وقيل: الكلام ما كان مُكْتَفِياً بنفسه وهو الجملة، والقول ما لم يكن مكتفياً بنفسه، وهو الجُزْء من الجملة؛ قال سيبويه: اعلم أَنّ قُلْت إنما وقعت في الكلام على أَن يُحكى بها ما كان كلاماً لا قولاً، ومِن أَدلّ الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماعُ الناس على أَن يقولوا القُرآن كلام الله ولا يقولوا القرآن قول الله، وذلك أَنّ هذا موضع ضيِّق متحجر لا يمكن تحريفه ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه، فَعُبِّر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أَصواتاً تامة مفيدة". 

فوصف ابن سيده الكلام بأنه صوت.

وقال في القاموس المحيط: "والكَلِمَةُ: اللَّفْظَةُ، والقَصيدةُ" وقال أيضا: "وتَكَلَّمَ تَكَلُّماً وتِكِلاَّماً: تَحَدَّثَ. وتَكالما: تَحَدَّثا بعدَ تَهاجُرٍ". 

فوصف الكلام هنا بأنه حديث بصوت، فالحديث أعم من الكلام، فكل كلام حديث وليس كل حديث كلام، لأن من الحديث ما يتحدث به المرء بينه وبين نفسه وليس هذا كلاما، ومثله القول، فإن القول أعم من الكلام، فكل كلام قول وليس كل قول كلام، لأن من الأقوال ما ليست كلاماً.

وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "الكاف واللام والميم أصلانِ: أحدهما يدلُّ على نطقٍ مُفهِم". 

فوصف الكلام بأنه نطق.

وفي كتاب الآجرومية في النحو، للآجرومي، قال في تعريف الكلام: "هو اللفظ المركب المفيد بالوضع".

فقال هو "اللفظ" فلا يكون الكلام كلاماً حتى يلفظ وينطق.

بينما الأشاعرة والماتريدية، يزعمون أن حديث النفس كلام، فكذّبوا بالقرآن وحديث رسول الله وبلغة العرب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأما بالحجج العقلية.

فقد علم بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، أن الكلام بصوت صفة كمال، وأن العجز عن الكلام بصوت صفة نقص، فخالف الجهمية من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة العقل الصحيح والفطرة السليمة، فزعموا العكس!

وقد ذم الله تعالى اليهود عندما عبدو العجل، فكان فيما ذمهم به أن قال: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا) [طه]. أي: أن العجل لا يستطيع التحدث إليهم، بكلام مفهوم.

وذم نبي الله إبراهيم قومه على عبادة الأصنام، وكان مما عابها به، أنها لا تستطيع الكلام، فقال الله مخبراً عنه: (فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) [الصافات].

بينما الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة، يصفون الله بالصفة التي تنقَّص الله العجل بها، وتنقَّص إبراهيم بها أوثان قومه، فتعالى الله الملك الحق عن قول الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة علواً كبيرا!


فتوى للإمامين الجليلين: الإمام أحمد بن حنبل والإمام إبراهيم الورّاق.

قال الحافظ عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة: وقال أبي رحمه الله: حديث ابن مسعود رضي الله عنه "إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان" قال أبى: وهذا الجهمية تنكره. وقال أبي: هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله عز وجل لم يتكلم فهو كافر، إلا أنّا نروي هذه الأحاديث كما جاءت.

وقال عبد الله بن أحمد في الفتاوى: قلت لأبي: إن ههنا من يقول: إن الله لا يتكلم بصوت، فقال: يابني هؤلاء جهمية زنادقة، إنما يدورون على التعطيل.

وذكر صالح بن أحمد بن حنبل، وحنبل، أن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: "جبريل سمعه من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم ". 

ذكره قوام السنة الأصفهاني في الحجة في بيان المحجة.

وقال الخلال: وأنبأنا أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلَّم وقال: من زعم أن الله كلَّم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام، فتبسم أبو عبد الله وقال: ما أحسن ما قال، عافاه الله.

تنبيه: عبدالوهاب، هو الإمام عبدالوهاب الورّاق، أحد أعلام السنة المتقدمين.

وأنا أعلم، بأن أئمة السُنّة بشر يصيبون ويخطؤون، وإنما نأخذ من أقوالهم، ما وافقوا فيه الحقّ، وكان عَضداً له، وحُجّة على المخالفين.

فإذا ثبت بالأدلة من الكتاب والسنة واللغة والعقل، وفتاوى كبار أئمة السنة، أن كلام الله تعالى بصوت وحرف، وأن كلامه من فعله، وأن أفعاله صادرة من ذاته، علمنا أن حرفه وصوته ليس بمخلوق، فهو يتدفّق من ذاته، وإذا خرج من ذاته، فلا يُدرى ما يصنع الله به، هل يعود إلى ذاته كما بدأ منها، أو يصنع الله به ما يشاء.

وهنا تنبيه: اللغة سواء كانت عربية أو أعجمية، هي الأصوات التي يصدرها المتكلم عندما يتكلم، والكلام فعل، وفعل العبد مخلوق، لأن الآلة التي يستخدمها العبد للفعل مخلوقة، وأما فعل الله فغير مخلوق، لأنه خالق وليس بمخلوق، وعلى هذا فأي لغة يتكلم الله بها فهي غير مخلوقة، لأنها من فعله سبحانه، وأي لغة يتكلم بها العبد مخلوقة، لأنها من فعل العبد.

وأما الشيء الذي لا يتكلم بصوت وليس بأخرَ، كما يقول المتكلمون، فهذه صفة العدم، فإن العدم لا يتكلم وليس بأخرَ أيضا.