الله تبارك وتعالى متكلِّم، وكلامه بصوت وحرف، والدليل من القرآن العظيم والسنّة النبويّة الصحيحة واللغة والعقل.
قال الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِیما﴾ [النساء]
وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاۤءَ مُوسَىٰ لِمِیقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ﴾ [الأعراف]
وزعم الجهمية الأشاعرة وإخوانهم الجهميّة الماتريدية، أن كلام الله ليس صوتاً ولا حرفاً، ولا يتعاقب ولا يتتالى، وأنه حديث نفس، ثم يكابرون ويقولون عن حديث النفس بأنه: كلام!
وهذا قول لم توافقهم عليه إخوانهم الجهميّة المعتزلة، بل عارضوهم عليه، وأنكروه عليهم، فقد كفانا شهادة إخوانهم المعتزلة على صحة قولنا، بأن الأشاعرة والماتريدية، يكذبون عندما يصفون حديث النفس بأنه كلام!
فكيف وقد شهد الله وشهد رسوله وأهل اللغة على كذبهم!
فما سوف نبيّنه من أدلة في الرد على قول الأشاعرة والماتريدية، في أن حديث النفس ليس كلاماً، يتضمّن إثبات أن كلام الله تعالى بصوت وحرف، وأنه يتعاقب ويتتالى، مما يتضمّن الرد على المعتزلة الذين يدّعون أن الله لا يتكلم!
فالله تبارك وتعالى في كتابه العزيز فرّق بين الكلام الذي هو صوت وحرف وبين حديث النفس.
فقال تعالى عن مريم: ﴿إِنِّی نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ صَوۡما فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡیَوۡمَ إِنسِيّا﴾ [مريم]
فأمرها الله تعالى أن تصوم عن كلام قومها فلا تخاطبهم بصوت وحرف، ثم قال تعالى مخبراً عنها: ﴿فَأَشَارَتۡ إِلَیۡهِۖ﴾ [مريم] أي أشارت إلى قومها أنها صائم عن الكلام، وأن عليهم أن يكلموا الصبي، والإشارة هنا لا يمكن أن تكون إلا بحديث نفس، فإذا كان حديث النفس كلام -كما يزعم الأشاعرة والماتريدية- لم يجز لها أن تحدثهم حديث نفس، لكونها صائمة عن الكلام.
فإن قال قائل: إنما صامت عن الكلام بصوت. فالجواب: هذا كلام تقولونه لترقّعوا به قولكم، ثم إنه وحسب الآية صامت عن مطلق الكلام، ولم تحدِّد، فلو كان هناك كلام بصوت وكلام بغير صوت، لقالت: (فلن أكلم اليوم إنسيَّا بصوت) وبما أنها لم تقيد صومها عن الكلام، بصوت، وإنما أشارت بأنها سوف تصوم عن الكلام، ثم حدَّثت قومها بحديث نفس أثناء إشارتها لهم إلى الغلام، تبين أن الكلام لا يكون إلا بصوت، وأن حديث النفس ليس كلاما.
وقال تعالى عن زكريا عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّیۤ ءَایَة قَالَ ءَایَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَیَّامٍ إِلَّا رَمۡزاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِیرا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِیِّ وَٱلۡإِبۡكَـٰرِ﴾ [آل عمران]
وقال تعالى مخبراً عن زكريا: ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰۤ إِلَیۡهِمۡ أَن سَبِّحُوا۟ بُكۡرَة وَعَشِيّا﴾ [مريم]
وقوله: (وسبِّح بالعشي والإبكار). وقوله: (أوحى إليهم) أي: أشار إليهم أن يسبحوا الله بكرة وعشيا. هي أحاديث نفس، فلا تكون الإشارة إلّا أحاديث نفس، فلو كان حديث النفس كلاما -كما تزعم الأشاعرة والماتريدية- لم يجز له أن يشير إليهم بشيء.
والدليل على ذلك من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم".
رواه البخاري ومسلم.
فهذا الحديث، دليل صريح قاطع، على أن حديث النفس ليس كلاماً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، فرّق بين حديث النفس، وبين الكلام.
فأبى الظالمون إلّا أن يجعلوا حديث النفس كلاماً، مُكابرة للحقيقة، ومُعارضَة للشريعة!
ومن حجج السنة على أن الله يتكلم بصوت يسمع وحرف ينطق، ما رواه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة".
فدلّ هذا الحديث على أن الله يكلّم عباده بصوت يسمع وحرف يفهم، بدلالة قوله: أنه ليس بينه وبينهم ترجمان، وهؤلاء الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة يزعمون أن الله تعالى لا يتكلم بحرف وصوت وأنه يخلق صوتاً يكون ترجماناً بينه وبين خلقه يترجم لهم ما يحدِّث به نفسه!
وأما الأدلة من اللغة.
فقد قال صاحب دليل السالك: "الكلام لغة: اللفظ الموضوع لمعنى مفيداً أو غير مفيد. واصطلاحاً: اللفظ المفيد، والمراد بالمفيد ما يفهم منه معنى يحسن السكوت عليه. بحيث لا يبقى السامع منتظراً لشيء آخر. مثاله: الله ربنا، ومحمد نبينا. وقوله: "اللفظ": أي الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية، بخلاف الإشارة، والكتابة، وعقد الأصابع، ونحو ذلك، فلا يسمى كلامًا عند النحاة. وقوله: "المفيد": يخرج الكلمة المفردة نحو: خالد، والمركب الإضافي نحو: أبو عبد الله، والإسناد المتوقف على غيره نحو: إنْ قدم هشام..، فإن الاقتصار على مثل ذلك لا يفيد. وأقل ما يتألف منه الكلام: اسمان مثل: الغيبة محرمة. أو فعل واسم مثل: جاء الحق".
فوصف الكلام بأنه لفظ، واللفظ لا يكون إلّا بصوت.
وقال ابن منظور في لسان العرب نقلا عن ابن سيده: "الكلام القَوْل، معروف، وقيل: الكلام ما كان مُكْتَفِياً بنفسه وهو الجملة، والقول ما لم يكن مكتفياً بنفسه، وهو الجُزْء من الجملة؛ قال سيبويه: اعلم أَنّ قُلْت إنما وقعت في الكلام على أَن يُحكى بها ما كان كلاماً لا قولاً، ومِن أَدلّ الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماعُ الناس على أَن يقولوا القُرآن كلام الله ولا يقولوا القرآن قول الله، وذلك أَنّ هذا موضع ضيِّق متحجر لا يمكن تحريفه ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه، فَعُبِّر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أَصواتاً تامة مفيدة".
فوصف ابن سيده الكلام بأنه صوت.
وقال في القاموس المحيط: "والكَلِمَةُ: اللَّفْظَةُ، والقَصيدةُ" وقال أيضا: "وتَكَلَّمَ تَكَلُّماً وتِكِلاَّماً: تَحَدَّثَ. وتَكالما: تَحَدَّثا بعدَ تَهاجُرٍ".
فوصف الكلام هنا بأنه حديث بصوت، فالحديث أعم من الكلام، فكل كلام حديث وليس كل حديث كلام، لأن من الحديث ما يتحدث به المرء بينه وبين نفسه وليس هذا كلاما، ومثله القول، فإن القول أعم من الكلام، فكل كلام قول وليس كل قول كلام، لأن من الأقوال ما ليست كلاماً.
وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "الكاف واللام والميم أصلانِ: أحدهما يدلُّ على نطقٍ مُفهِم".
فوصف الكلام بأنه نطق.
وفي كتاب الآجرومية في النحو، للآجرومي، قال في تعريف الكلام: "هو اللفظ المركب المفيد بالوضع".
فقال هو "اللفظ" فلا يكون الكلام كلاماً حتى يلفظ وينطق.
بينما الأشاعرة والماتريدية، يزعمون أن حديث النفس كلام، فكذّبوا بالقرآن وحديث رسول الله وبلغة العرب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما بالحجج العقلية.
فقد علم بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، أن الكلام بصوت صفة كمال، وأن العجز عن الكلام بصوت صفة نقص، فخالف الجهمية من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة العقل الصحيح والفطرة السليمة، فزعموا العكس!
وقد ذم الله تعالى اليهود عندما عبدو العجل، فكان فيما ذمهم به أن قال: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا) [طه]. أي: أن العجل لا يستطيع التحدث إليهم، بكلام مفهوم.
وذم نبي الله إبراهيم قومه على عبادة الأصنام، وكان مما عابها به، أنها لا تستطيع الكلام، فقال الله مخبراً عنه: (فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) [الصافات].
بينما الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة، يصفون الله بالصفة التي تنقَّص الله العجل بها، وتنقَّص إبراهيم بها أوثان قومه، فتعالى الله الملك الحق عن قول الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة علواً كبيرا!
فتوى للإمامين الجليلين: الإمام أحمد بن حنبل والإمام إبراهيم الورّاق.
قال الحافظ عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة: وقال أبي رحمه الله: حديث ابن مسعود رضي الله عنه "إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان" قال أبى: وهذا الجهمية تنكره. وقال أبي: هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله عز وجل لم يتكلم فهو كافر، إلا أنّا نروي هذه الأحاديث كما جاءت.
وقال عبد الله بن أحمد في الفتاوى: قلت لأبي: إن ههنا من يقول: إن الله لا يتكلم بصوت، فقال: يابني هؤلاء جهمية زنادقة، إنما يدورون على التعطيل.
وذكر صالح بن أحمد بن حنبل، وحنبل، أن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: "جبريل سمعه من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم ".
ذكره قوام السنة الأصفهاني في الحجة في بيان المحجة.
وقال الخلال: وأنبأنا أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلَّم وقال: من زعم أن الله كلَّم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام، فتبسم أبو عبد الله وقال: ما أحسن ما قال، عافاه الله.
تنبيه: عبدالوهاب، هو الإمام عبدالوهاب الورّاق، أحد أعلام السنة المتقدمين.
وأنا أعلم، بأن أئمة السُنّة بشر يصيبون ويخطؤون، وإنما نأخذ من أقوالهم، ما وافقوا فيه الحقّ، وكان عَضداً له، وحُجّة على المخالفين.
فإذا ثبت بالأدلة من الكتاب والسنة واللغة والعقل، وفتاوى كبار أئمة السنة، أن كلام الله تعالى بصوت وحرف، وأن كلامه من فعله، وأن أفعاله صادرة من ذاته، علمنا أن حرفه وصوته ليس بمخلوق، فهو يتدفّق من ذاته، وإذا خرج من ذاته، فلا يُدرى ما يصنع الله به، هل يعود إلى ذاته كما بدأ منها، أو يصنع الله به ما يشاء.
وهنا تنبيه: اللغة سواء كانت عربية أو أعجمية، هي الأصوات التي يصدرها المتكلم عندما يتكلم، والكلام فعل، وفعل العبد مخلوق، لأن الآلة التي يستخدمها العبد للفعل مخلوقة، وأما فعل الله فغير مخلوق، لأنه خالق وليس بمخلوق، وعلى هذا فأي لغة يتكلم الله بها فهي غير مخلوقة، لأنها من فعله سبحانه، وأي لغة يتكلم بها العبد مخلوقة، لأنها من فعل العبد.
وأما الشيء الذي لا يتكلم بصوت وليس بأخرَ، كما يقول المتكلمون، فهذه صفة العدم، فإن العدم لا يتكلم وليس بأخرَ أيضا.