الرد على المرجئة - الحلقة الأولى

الفصل الأول: وهي في بيان ما يستلزم إقامة الحجة من مسائل الدين وما لا يستلزم، وما يكفر به وما لا يكفر.

اعلم أن مسائل الدين تنقسم إلى قسمين:

قسم يدرك بالعقل والفطرة، فهذا لا يحتاج إلى إقامة الحجة الرساليّة عليه، كون العقل والفطرة هي الحجة فيه.

وقسم لا يدرك إلّا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتاج على إقامة الحجّة الرساليّة عليه، لأنه لا يمكن إدراكه بالعقل ولا بالفطرة.

وكلا القسمين، ينقسم أيضاً إلى قسمين:

قسم يكفر فيه المخالف سواء بدون إقامة الحجة الرساليّة فيما يدرك بالعقل والفطرة، أو بعد إقامة الحجّة الرساليّة، فيما لا يمكن إدراكه بالقل والفطرة.

وقسم لا يكفر فيه المخالف، سواء بدون إقامة الحجة الرسالية، فيما يدرك بالعقل والفطرة، أو بعد إقامة الحجّة الرساليّة، فيما لا يمكن إدراكه بالعقل والفطرة.

فأما القسم الذي يدرك بالعقل والفطرة، ولا يحتاج إلى إقامة الحجة الرساليّة عليه، كون العقل والفطرة هي الحجة فيه، ويكفر المخالف فيه بدون إقامة حجة رساليّة، فهو: 

توحيد كمال الصفات، وتوحيد الربوبيّة، وتوحيد الألوهية، ويندرج تحت توحيد الربوبيّة: توحيد الملك، وتوحيد الخلق، وتوحيد الأمر والتدبير.

فمن زعم أن لله تعالى ندّاً في كمال صفاته، وخصوصاً القوّة والقدرة، أو أشرك مع الله إلهاً غيره، في ملكه أو زعم أن هناك خالقاً يخلق مع الله تعالى، أو شريكاً في أمره وتدبيره، أو صرف له الدعاء والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة، فيما لا يقدر عليه إلّا الله تعالى، أو تقرّب لمخلوق بالذبح والنذر، ليقضي له شيئاً من حوائج الدنيا أو الأخرة، لا يقدر على قضائها إلا الله عز وجل، فهذا كافر، ولو ادعى الإسلام، وصلى وصام وحج البيت الحرام، وسواء بلغته الحجة أم لم تبلغه.

وهناك ما هو أعظم من الشرك، مثل: إنكار وجود الله تعالى، أو الإقرار بوجوده، مع سبّه أو شتمه، أو لعنه، تعالى الله وتقدس، أو التكبر عليه، والإعراض عن الهدى الذي جاء به، وبعث به رُسُلَه، أو أدعاء أن هناك من هو أكمل في صفاته من الله تعالى، فهذه أعظم من الشرك.

والدليل على ذلك: أن العقل والفطرة، تحيل أن يكون للمخلوق قوّة وقدرة، فوق قوّة وقدرة المخلوقات، بمعنى، أنها لا تملك قوىً خارقة للعادة، كون هذه المخلوقات محكومة بقوانين معيّنة لا تخرج عنها، فبالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن أن الصنم قادر على سماعنا وإجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عما لا يقدر عليه في الحقيقة إلا الله عز وجل. وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن أن الحجر أو الشجر قادرة على سماعنا، وإذا كانت تسمعنا، فهي غير قادرة على إجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عمّا لا يقدر عليه في الحقيقة إلّا الله عز وجل. وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن يظن أن مخلوقاً ميّتاً، قادر على سماعنا وإجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عما لا يقدر عليه في الحقيقة إلا الله عز وجل، وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن بأن مخلوقاً يقيم في مكان بعيد، قادر على سماعنا وإجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عما لا يقدر عليه في الحقيقة إلا الله عز وجل، وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن ان نظن أن مخلوقاً عاجزاً عن الحركة، قادر على إجابة دعائنا، فيما يحتاج إلى الحركة والنهوض، وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن أن مخلوقاً قادراً على إحياء الموتى، أو إنزال المطر، أو أنه قادر على أن يهب الأطفال للآباء والأمهات، أو أن ييسّر الرزق.

فمن يسأل مخلوقاً والحالة كما وصفت، فهذا يعني أنه يعتقد فيه قوة وقدرة فوق عادة المخلوقات، بحيث يستطيع ما لا يستطيعه عامة المخلوقات، وبالتالي جعله ندّاً لله تعالى في كمال صفتي القوة والقدرة، وإن زعم أنه لم يفعل، ولكنه فعل في الحقيقة، كونه استجاز أن يسأل من ذلك المخلوق، جميع ما يسأله من الله تعالى، بلا تفريق.

فكانت دلالة العقل والفطرة في هذه المسألة كافية في إقامة الحجة على هؤلاء، وإن لم يبعث رسول ولم ينزل كتاب.

وأما القسم الذي يدرك بالعقل والفطرة، ولا يحتاج إلى إقامة الحجة الرساليّة عليه، كون العقل والفطرة هي الحجة فيه، ولكن فاعله لا يكفر ولا يخرج من الإسلام، وإنما هو عاصٍ لله تعالى، فهي:

القتل بغير وجه حق، واللواط، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، بالغش والخداع والمكر، والاغتصاب، وظلم الناس وقهرهم، بأي نوعٍ من أنواع الظلم.

فمن ارتكب شيئاً من ذلك، فهو عاصٍ ومستوجب للعقوبة الإلهيّة، وإن لم تبلغه الحجة الرساليّة في تحريم ذلك، كون العقل والفطرة، هي الحجة فيها.

والدليل على ذلك: ما رُوي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر".

رواه البخاري ومسلم.

فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أن الرجل سوف يؤاخذ بما عمل في جاهليّته، من القتل بغير وجه حق، والسرقة واللواط، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، بالغش والخداع والمكر، والاغتصاب، وظلم الناس وقهرهم، بأي نوعٍ من أنواع الظلم. ولم يعذر بجهله، ولا بعدم بلوغ الحجّة الرساليّة له، كون العقل والفطرة هي الحجّة في قبح هذه الأعمال وفسادها، وإذا كان هذا حال القاتل واللوطي والسارق واضرابهم، فكيف بالمشرك، الذي ذنبه أعظم من ذنوب هؤلاء وأشنع وأفجر! فهذا الحديث دللي أيضاً على أن المشرك لا يعذر بأي عذر من الأعذار، وأن الحجّة العقليّة والفطريّة قائمة عليه، وأنه مؤاخذ بلك وإن لم تبلغه الحجّة الرساليّة.

وعن زيد بن ثابت قال: ينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه".

رواه مسلم.

فانظر، كيف أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن هؤلاء المقبورون، يعذبون في قبورهم، حتى حادت بغلته عنها وكادت أن تلقيه، وقد يكونون يعذبون على الشرك، أو على ما اقترفته أيديهم في الجاهلية، من القتل بغير وجه حق، أو السرقة وأكل أموال ناس بالباطل والاغتصاب وظلم الناس، وسوء الأخلاق، مع أنهم ماتوا قبل بعثة النبي، ولم تبلغهم الحجّة الرساليّة.

وأما القسم الذي لا يدرك إلّا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحتاج على إقامة الحجّة الرساليّة على المخالف فيه، لأنه لا يمكن إدراكه بالعقل ولا بالفطرة، والمخالف فيه يكفر بعد إقامة الحجة الرساليّة عليه، فهي:

الإيمان بالملائكة والجنّ والرسال والكتب المنزلة عليهم والبعث واليوم الأخر والقدر خيره وشرّه. وما افترضه الله تعالى من العبادات، والمعاملات، والأقضية، وسائر الشرائع.

فمن جحد شيئاً من ذلك جهلاً منه، لم يكفر، حتى تقام عليه الحجّة الرساليّة، فإن جحد ذلك بعد إقامة الحجة الر ساليّة عليه، فهو كافر الكفر الأكبر، فيما قلّ منه أو كثر.

فإن لم يجحد ذلك بعد إقامة الحجّة الرساليّة عليه، ولكن ترك العمل فيما يجب العمل به، من العبادات وسائر الشرائع، فهو عاصٍ وليس بكافر.

ما عدا الصلاة، لورود النصّ الشرعي، بان تارك الصلاة كافر، سواء جحد أنها فرض من الله أو لم يجحد ذلك، فتارك الصلاة يكفر مطلقاً بعد إقامة الحجة الرساليّة عليه.

والدليل على ذلك: ما روي عن حذيفة بن اليمان قال: يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها. فقال له صلة بن زفر، رجلٌ من أصحاب حذيفة: ما تغني عنهم: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة، تنجيهم من النار ثلاثا.

رواه ابن ماجه.

فهذا الحديث، يدل على أن من لم يبلغه الخبر في العبادات وما يشبهها، كالمعاملات، وسائر الشرائع، ما خلا التوحيد، فهو معذور بجهله، حتى تقام عليه الحجة الرساليّة.

وأما القسم الذي لا يدرك إلّا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحتاج على إقامة الحجّة الرساليّة على المخالف فيه، لأنه لا يمكن إدراكه بالعقل ولا بالفطرة، والمخالف فيه لا يكفر بعد إقامة الحجة الرساليّة عليه، ولكنه عاصٍ لله تعالى، ومستوجب للعقوبة الإلهيّة، فهي: جميع العبادات والمعاملات والأقضية وسائر الشرائع، شرط أن لا يجحدها ولا يستحل شيئاً منها، فمن جحد شيئاً منها أو استحل ما حرّم الله عز وجل، فقد كفر الكفر الأكبر، لجحده ما فرضه الله تعالى، ولاستحلاله ما حرم الله عز وجل، ولكن لا يكفر إلا بعد إقامة الحجة، ما عدا الصلاة، على ما سبق وأن بيّنت.

والدليل على ذلك: قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰۤ إِثۡمًا عَظِیمًا﴾ [النساء] 

فأخبر الله تعالى أن كل شيء دون الشرك، فهو معصية، والواقع فيها مستوجب للعقوبة، إلّا أن يعفو الله عنه.