معنى قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) والذي جهله حتى كبار علماء السلفية!!

وما السبب الذي جعل كبار علماء السلفية يجهلون معنى هذه الآية، مع شِدّة وضوحه وبيانه، لأصغر صبيٍّ عربيّ؟

السبب: هو اطراح هؤلاء "العلماء" على كتب المتكلمين، من تفاسير للقرآن أو شروح للحديث، أو كتب في العقائد.

وهناك أمثلة كثيرة على هذا الانحراف، عند كبار علماء لسلفية، فهذا عمر نب عبدالبر، يتأول قرابة تسع صفات على غير مذهب السنة.

وحتى أني أذكر أن الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وهو يعتبر أكبر علماء السلفية في زمانه، لما سُئِل عن تأويل حديث الصورة، نقل كلام ابن حجر العسقلاني ذاك الأشعري الجهمي بحذافيره ال`ي أورده في كتابه الشِرِّير حقيقة الذي أسماه فتح الباري بشرح صحيح البخاري.

وأذكر مرَّة أني كنت أبحث عن ما قاله الشُرّاح في حديث: "فاستأذن على الله في داره" كان الحديث بالنسبة لي واضح، ولكن أحببت أن انظر ماذا قال فيه الشُرَّاح، حتى أعرف قول المتكلمين فيه، لأحذره أو ارد عليه، أو أنظر ما قاله فيه المنتسبون إلى المدرسة السلفية لعل عندهم إضافة جيدة لم أنتبه لها.

ولكن مع الأسف لم أجد شيئاً، سوى التحايل على إسقاط هذه اللفظة، وتحريف معنى الحديث، حتى من السلفيين أنفسهم، أُسْوَةً بأئمتهم المتكلمين.

حتى أن أحد أتباع المدرسة السلفية في موقع الألوكة، وهو موقع يسير على منهج السلفية المعاصرة، بتناقضاتها وأعاجيبها، يريد أن يرد على اعتراض معترضٍ، استعظم ما ورد في هذا الحديث، من أن لله تبارك وتعالى داراً يسكنها في السماء.

طبعاً السائل كان متكلماً، وهو يريد بهذا الاعتراض، أن ينتصر لمنهج أصحابه في أن الأحاديث لا تؤخذ على ظاهرها وإنما تأوَّل.

فأخذ هذا المُتأسلِف، يرد عليه، ويقول: بأن هذا الحديث، ضعف بعض العلماء هذه اللفظة، وبعضهم تأوله، ثم أخذ ينقل كلام كبراء المتكلمين، مثل ابن بطال وابن حجر وغيرهم. 

فأخذ يرد على المعترض بكلام كبراء هذا المعترض، الذي ما اعترض المعترض على حديث الدار، إلّا لينتصر لمهذهب هؤلاء القوم، الذي هذا المتأسلف ينقل كلامهم له!!

فهذا من الأعاجيب.

كيف ترد على رجلٍ بما يريد أن يصل بك إليه!

حتى أن عادل آل حمدان، ألف كتاباً بعنوان: "التنبيهات الجلية على الأخطاء العقدية في شروح كتب السنة النبوية في كتابي : 1- تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي 2- عون المعبود شرح سنن أبي داود".

مع أن مؤلفي هذين الشرحين، محسوبان على المدرسةالسلفية!

كلّ هذا بسبب اطّراح القوم على كتب المتكلمين، وتأثرهم بما فيها من خُزُعبلات، وأباطيل.

وهذا ما نبّه عليه عادل نفسه، في تنبيهاته.

وعلى ذكر عادل آل حمدان.

عادل ىل حمدان، له جهودٌ جبّارة في هذا المجال، وإن كان يغلو في قبوله لآثار السلف، مع ما فيها من تناقض، بدعوى أننا لو رددنا ما رووه، رميناهم بانهم لا يحسنون الرواية أو ليس لديهم بصيرة في التمييز بين الأخبار، والحقيقة أن شريحة كبيرة من رواة الأخبار، حطّاب ليل وجرَّاف سيل، كل ما وجدوه يوافق عقيدتهم التي ورثوها عن مشايخهم رووه في كتبهم، وإن تناقض، واستحال الجمع بينها، أو كان حتى موضوعاً.

والأمثلة على ذلك كثيرة.

منها روايتهم لحديث حملة العرش الأربعة، ثم روايتهم لحديث الأوعال. 

أحاديث لا يمكن الجمع بينها.

وكذلك روايتهم لحديث الاستلقاء، وأن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض استلقى على قفاه، ووضع قدماً على الأخرى، وتعليلهم نهي النبي عن الاستلقاء ووضع رجل على الأخرى بأنه لا ينبغي لأحد أن يتشبه بالله في ذلك!

وهذا حديث كذب، لأن النهي عن الاستلقاء ووضع رجل على الأخرى، وردت فيه أحاديث صحيحة ليس فيها أن الله فعل ذلك، فضلاً عن أن ينهى عن ذلك لأنه فعله!

إنما نهي عنه لأن عورة الرجال تبدو بسبب ذلك، لأنهم لم يكونوا يرتدون السراويل إلا نادراً، فنهى النبي عن الاستلقاء أو الاحتباء، لأن هذا كله يؤدي إلى كشف العورة. 

ثم إننا مطالبون بالتشبه بالله تعالى في صفاته، ما لم ننهى عن شيء منها، فالله كريم فيجب أن نكون كرماء، والله رحيم، فيجب أن نكون رحماء، الله لطيف، فيجب أن نكون لطفاء، 

فبناء على هذا الحديث، قياساً، يجب أن لا نكون كرماء ولا رحماء ولا لطفاء، لأننا بذلك نتشبه بالله تعالى!

وهذا هراء.

وفوق هذا كله، فالله ذكر لنا أنه استوى على عرشه، والاستواء على العرش شيء،و الاستلقاء شيء أخر.

إلى غير ذلك من الأحاديث.

وكما قتل سابقاً واقو للاحقاً، لا سبيل إلى فهم هذا الدين بعد القرآن إلا من خلال الأحاديث، ولكن الأحاديث تحتاج إلى حاذق يقوم بغربلتها، وتمييز ما يقبل منها وما لا يقبل.

خرجنا عن موضوعنا قليلاً.

فأقول: أنه وبسبب اطّراح علماء السلفية على كتب المتكلمين، صارت عندهم فساد كبير في معرفة معاني كتاب الله تعالى.

فإنك تجدهم يضلُّون في معرفة معنى آية من أوضح الآيات، لا لشيء، إلا لأنهم قراوا في التفسير الفلاني للمتلكم الفلاني أن معناها كيت وكيت، 

فيأتي هذا المتكلم الجاهل في تفسيره، ويحرّف معناها الصحيح، لكي إما أن يجيّرها لصالح مذهبه، أو يجعلها غير متعارضة مع مذهبه.

والناس صنفان عرب وعجم، فالعجم لا يعقلون من لغة العرب إلا ما تلقّوه تلقيّاً ممن ينتسب إلى العلم والفقه.

والعرب، على قسمين: مستعجم، وهم من خالط العجم، وتثقف بثقافتهم وتزيا بزيهم، وإن كان لسانه عربياً، ولكنه صار كالأعجمي الذي لا يعرف من لغة العرب إلا التلفّظ بها، دون معرفة بأساليب العرب في كلامها وعاداتها فيه.

والقسم الأخر عربي عربي، تجده من عرب الحجاز أو نجد، ومع ذلك قليل عقل قليل فهم، بليد طبع، وضعيف إدراك. يطّرح على كتب القوم ممن ينتحلون العلم، فيأخذ عنهم حتى معاني كلامه الذي يتداوله في محيطه! فهو بهذا يصبح من مستعجمة العرب.

مثال ذلك ضياعهم في معنى قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) 

هذه الآية، من أوضح الآيات عند العرب، ولا يزال العرب يستخدمونها إلى يومنا هذا في كلامهم. 

فهذه الجملة من أوضح الجمل معناً.

فالعرب عندما ترى شخصاً قد برز في صفاته أو في صفة من صفاته على غيره، يقولون: فلان ليس كمثله أحد، في شجاعته، أو في كرمه، أو في شهامته ونخوته. ونحو ذلك.

وإن كان متفرّداً في جميع صفاته على من حوله قالوا: فلا ليس كمثله أحد، وأطلقوا هذه الصفة ولم يقيدوها بصفة من الصفات.

ما معنى قولهم هذا؟

هل يريدون بذلك أن فلان هذا لا يماثل ولا يشبه أحد من الآدميين في صفاته، وأن كل ما خطر ببالنا فهو بخلافه، وأن صفاته لا تمثل ولا تشبه ولا تحرف ولا تُأوَل ولا تكيَّف؟!

بالطبع لا.

هم لا يعنون ذلك مطلقاً.

وإنما يعنون بذلك، التنبيه على التباين في كمال الصفات، بين هذا الشخص وغيره من الأشخاص، فقط.

إذاً هذه الآية تعني أن الله تبارك وتعالى، لا يماثله أحدٌ في كمال صفاته، ليس في بيئة دون بيئة أو موضع دون موضع، بل في جميع العوالم التي يملكها. لان الله تعالى مشرف على جميع العوالم التي خلقها، مهيمنٌ عليها. 

وبذلك عندما نقول بأن الله ليس كمثله شيء، لا نخص بذلك موضع دون موضع أو عالم دون عالم، بل على جميع المواضع والعوالم.

وتذكروا أن الله تعالى قال: "ليس كمثله" ولم يقل: "ليش كشبهه"

فالبعض ومنهم سلفيون يفسِّر هذه الآية تفسيرا أعمى أخر، وهو أن هذه الىية - بزعمه - تعني أن الله لا يشبه أحداً من خلقه من جميع الوجوه!!

ثم يتوصّلون بذلك إلى نفي إستطاعة إدراك الكيفية مطلقاً، بناء على أن الله لا يشبه أحداً من خلقه من جميع الوجوه!

فاحتجوا بهذه الآية، على نفي الشبه ونفي الكيف معاً.

والحقيقة أن هذا باطل، فإن الله لم ينفي سوى التماثل، ولكنه لم ينفي الشبه.

فبين المثل والشبه فرق لا يدركه مستعربة العجم ولا مستعجمة العرب، 

فأولا التماثل والتشابه لا يقع إلا فيما اتفق في معناه من الصفات.

وإلا فكيف يتم التمثيل أو التشبيه بينهما!

ثم المثيل هو النظير هو الكفء هو النِدّ هو السَميّ، فالتماثل بين شيئين، يلغي جميع الفوارق بين المتماثلين في الصفة.

بينما التشابه بين شيئين، يراد به أنهما متوافقان في بعض جوانب الصفة ومختلفان في بعض جوانبها الأخر.

والذين احتجوا على تعطيل صفات الباري والذين احتجوا على عدم استحالة إدراك كيفية صفات الله تعالى، إنما احتجوا بهذه الآية، فإذا ثبت أن هذه الىية لا تدل على ما أرادوا، وأن احتجاجهم بها خطأ، 

فأين الدليل على تعطيل صفات الباري سبحانه وعلى استحالة عدم إدراك كيفية صفات الله تعالى؟

والجواب: لا يوجد دليل.

وبالتالي نقول، بأن صفات الله تعالى ثابتة، بالنصّ، وأنه يمكننا إدراك كيفية صفات الله تعالى، التي بيّن لنا الله عز وجل ورسوله كيفيتها، بوضوح، من خلال ما ورد في الكتاب والسُنَّة.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.


حيلة أخرى من حِيَل مشركي المتكلمين والصوفيَّة لشرعنة شركهم!

 هذه حيلة أخرى من حِيَل مشركي المتكلمين والصوفية، لشرعنة شِركهم، وقد كنت أعرف هذه الحِيْلة منذ زمن طويل، ولكني نسيت أن أتكلم عنها في الحلقة السابقة بعنوان: هل دعاء غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى لا يكون شركاً إلا باعتقاد الربوبية في المدعو من دون الله تعالى.

ولذلك، لزم من باب البيان، وإقامة الحجّة على المخالفين، أن نتكلم عنها هنا، ونفنّدها.

والله اسأل التوفيق والعون والسداد.


فمن حِيَلِهم لشرعنة شركهم، غير ما ذكرنا سابقاً، هو قولهم: أنهم لا يدعون الملائكة والأنبياء والأولياء والمشايخ والإنس والجن، معتقدين فيهم أنهم آلهة، بل هم مجرّد أسباب، يتسبّبون بها للتقرب إلى الله تعالى، وأنهم يغيثون ويعينون ويعيذون وينفعون ويضرون بإذن الله تعالى، وبمشيئة الله وإرادته.

ويظن هؤلاء المغبونون، أنهم بقولهم أنهم يعتقدون في شركائهم من دون الله تعالى أنهم مجرّد أسباب، وبتعليقهم الأمر بإذن الله ومشيئته وإرادته، أنهم برئوا من الشرك قليله وكثيره.

وهذا باطل.

لأن مشركي العرب قبل الإسلام، ما كانوا يعتقدون أن آلهتهم التي يعبدون من دون الله تعالى، تنفع وتضر من دون الله تعالى، بل كانوا يؤمنون بأنها مجرّد أسباب، يتسبّبون بها للتقرّب إلى الله تعالى، وكانوا يعتقدون أنها لا تنفعهم ولا تضرّهم إلّا بإذن من الله تعالى، وبمشيئته وإرادته سبحانه.

وهذا منصوص عليه في القرآن الكريم.

قال تعالى: ﴿وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡ وَیَقُولُونَ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شُفَعَـٰۤؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ [يونس ١٨]

وقال تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّینُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِیُقَرِّبُونَاۤ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰۤ إِنَّ ٱللَّهَ یَحۡكُمُ بَیۡنَهُمۡ فِی مَا هُمۡ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی مَنۡ هُوَ كَـٰذِبࣱ كَفَّارࣱ﴾ [الزمر ٣]

وكانوا مع إيمانهم بتعدد الآلهة، يرون أن الله تعالى هو الإله الأعظم، الذي تنقاد له جميع الآلهة، وأنها لا تستطيع فعل شيء أو إعطاء أمرٍ أو تدبيره، إلا بإذن من الله تعالى ومشيئته وإرادته.

فكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.

فإن كان الله يملك هذا الشريك وما ملك، فلا شك أن هذا الشريك لا يستطيع أن يعطي أمراً أو يدبّره إلا بإذن من له الملك كله.

فبطلت شبهتهم هذه، وتبيّن فسادها.


وقوله تعالى: (قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ) دليل على أنهم اتخذوا هؤلاء الشفعاء بغير أمر من الله أو رُسُله، 

وفيه أن مسائل الدين توقيفيَّة، فلا يجوز لأحد أن يشرع في دين الله ما لم يأذن به الله، فإن أفتى بفتوى وجب عليه أن يقرنها بالدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله، 

فهؤلاء الذين أجازوا صرف الدعاء للمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وزعموا أنه ينفع ويضر بإذن الله تعالى ومشيئته وإرادته، بأي دليل أو حجة شرعيَّة أجازوا ذلك؟! 

وما الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، على أن الله تعالى أذن وشاءوأراد للأنبياء والأولياء والمشايخ والملائكة والجن أن ينفعون ويضرون ويأمرون في ملكه ويدبرون؟!

إما أن يعطو الدليل الشرعي، من القرآن الكريم، أو الأحاديث الصحاح، وليست الأحاديث الضعيفة والموضوعة، مع أني لا أعلم حديثاً يجيز الشرك حتى في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ولكن هم قادرون على التأليف والوضع، في كل زمان ومكان، على جواز ذلك، فإن لم يأتوا فليشهدوا على أنفسهم أنهم من الكاذبين على الله وعلى رسوله.

لأن هذه المسألة لا تُدرك إلا بالخبر عن الله أو عن رسوله، فإن لم يأمر بها الله أو رسوله، فمن أين جاءوا بها؟!

مثل ذلك الجاهل النووي، الذي يجيز الذبح على اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنما يريد بذلك التبرّك بذكر اسم النبي محمد، من الذي أمرك بهذا حتى تفتي الناس ما لم يأمر به الله ولا رسوله؟! هذا وأمثاله يوصف بانه إمام وحافظ وعالم وحفظ الإسلام والسنة، والله المستعان!


وهؤلاء القوم، لا يستطيعون التمييز بين قدرة الله تعالى، وقدرة المخلوق، أو لنقل، أنهم لا يؤمنون بأن لله تعالى قدرة خاصَّة به.

بمعنى، أنهم يعتقدون بأنه لا يلزم من كون الله هو الكامل في صفاته، أن يتفرّد بهذه الصفة.

فعندهم، أن الله تعالى، قد يمنح كمال الصفات الواجب له سبحانه، لغيره، بحجّة أن ذلك يقع بإذن الله ومشيئته وإرادته.

وقد بيّنت أن هذا هو عين اعتقاد مشركي العرب قبل الإسلام.

وهو أن يمنح الله أحداً من خلقه كمال الصفات المطلق الواجب له سبحانه وتعالى وحده لا ندّ له في ذلك.

فيزعمون أن الله تعالى قد يُشرِك معه أحداً من خلقه في ملكه وفي خلقه وفي أمره ونهيه وفي ألوهيَّته أيضاً.

وهذا كذبٌ محض، لأن الله تعالى لن يمنح أيَّ مخلوق هذا الكمال المطلق الذي لا يستحقه إلّا هو سبحانه.

والدليل على ذلك، أن الله وصفه نفسه قائلاً: "ليس كمثله شيء" وقال: "ولم يكن له كفواً أحد" فكمال الصفات المطلق، لو منح لأحد من خلق الله، لكان هذا المخلوق مثيلا لله وكفواً لله، ولم يكن لهذه الآيات معنى.

فهذه الآيات، تدل دلالة قطعيَّة، على أن الله لن يمنح أيًّ من خلقه هذا الكمال المطلق. 

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح، لما سئل عن الشرك: "أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك"

وهؤلاء يقولون: بأن الله هو من يجعل له النِدّ! بل ويرضى من الناس أن يتخذوا من هؤلاء أنداداً له سبحانه!

وهذا يبطل دعاوى هؤلاء المشركين.

ولذلك تجد أولئك المشركين يقولون في حججهم السخيفة البليدة في هذا الباب، هو قولهم: أنه بما أنه يجوز أن نسأل من الغني أن يعطينا مالاً، مما لديه من المال، ولا يكون سؤالنا له شركاً، فيجوز إذا أن نسأل من النبي أو الولي أو الشيخ أو الملاك أو الجني، أن يعطينا المال، وإن كانوا بعيدين أو في عالم أخر أو أمواتاً أو فقراءاً أو لا يملكون المال، بحكم أنه يفعل ذلك بمشيئة الله وإرادته وإذنه!!

وهذا قول يدل على تحايل قائله على الشريعة، ومغالطته للعقل الصحيح والفطرة السليمة.

لأنه من جهة مطالب بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة على أن الله أشرك النبي أو الولي أو الشيخ أو الملاك أو الجنّي معه في ملكه أو خلقه أو أمره ونهيه، وأنه أمره بدعاء هؤلاء من دونه، وأن يتخذهم شُفعاء - الشفاعة الشركية وليست الشفاعة التوحيديَّة - يصرف لهم الدعاء من دون الله ويذبح لهم وينذر لهم على هذا الأمر.

ولن يجدوا دليلاً شرعياً على ذلك، بل سوف يجدون العكس تماماً، سوف يجدون الله تعالى ينهى عن دعاء غيره، فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى، ولم يميّز بين ما علقه المشرك بإذن الله ومشيئته وغرادته، وما لم يعلقه المشرك على ذلك! بل وصف جميع هذه الأفعال بانها شرك، ولا يوجد دليل على هذا الاستثناء المخترع.

هؤلاء المتكلمين والصوفية والشيعة الارفضة، عندهم انتكاسة في الفكر والعقل والدين ما بعدها انتكاسة.

ومثال على ما سبق، لو أن رجلاً ملك مالاً، فهل يجوز لك أن تساله من ماله؟ 

الجواب: نعم.

لأنه حي وحاضر ويقدر على إعطائك المال الذي تريده مما ملكه الله عز وجل.

ولكن هل يجوز أن تسأل الميت أو الغائب؟

الجواب: لا، لأنه لا يسمعني ولا يراني ولا يعلم بحالي.

وهل يجوز سؤال الفقير؟

الجواب: لا، لأنه لا يملك المال.

وهل الميت أو الغائب، عندهما قدرة خارقة للعادة، بحيث يستطيعان سماع صوتك ورؤيتك والعِلم بحالك؟

الجواب: لا.

وهل الغني أو الفقير، حيّان أم ميّتان، حاضران أم غائبان، لديهما قدرة خارقة للعادة لجلب المال إليك؟

الجواب: لا.

وما حكم من اعتقد في المخلوق غنياً أو فقيراً حيّا أو ميّتاً، حاضراً أو غائباً، أن لديه قدرة خارقة على سماع صوتك ورؤيتك والعِلم بحالك وجلب الرزق إليك، حتى لو زعم أن هذا يقع بإذن الله ومشيئته وإرادته؟

الجواب: حكمه أنه مشرك شركاً أكبر، لأن هذه الأمور تختصّ بها قدرة الله تعالى، المتفرِّد بكمال الصفات، وقدرة المخلوق تعجز عن ذلك. 

وبما أن هذا الجواب، مدركٌ بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، فإن من وقع في هذا العمل، فحكمه أنه مشرك شركاً أكب{، وإن مات على ذلك خُلِّد في النار، وإن لم يأته رسول.


كما أن هؤلاء المشركين المدعين للإسلام، يخلطون بين الكرامة وخوارق العادات.

فالكرامة، هي أن يكرم الله عبده بكرامة تخصّه، قد لا تقع لغيره.

مثال ذلك: أن يكون هذا الرجل مستجاب الدعوة.

أو أن يكون ممن إذا أقسم على الله لأبرّه.

وأما خوارق العادات، فهي مثل المشي على الماء، أو الطيران في الهواء، أو إحياء الموتى، أو القدرة على الخلق، أو تحويل العصا إلى حيَّة تسعى، أو جعل الكف تشعّ نوراً، أو شق البحر نصفين، أو عدم أكل النار للشخص، أو شقّ القمر نصفين، أو إخراج ناقة من الصفا، أو جعل الجمادات تتكلم أو تتحرك.

هذه كلها خوارق للعادات، لأنه لم تجري عادة البشر أنهم يقومون بمثل هذه الأعمال.

فالكرامة تقع لأي شخص، حتى لو لم يكن نبيّاً.

وليس فيها إلّا الدلالة على صلاح هذا الرجل وتقواه، ولولا ذاك، لما كان مجاب الدعوة ولما أبرّ الله قسمه.

وأما خوارق العادات، فلا تعطى إلّا للأنبياء، ولسبب وجيه، وهو للاستدلال بها على صحة دعوى الأنبياء فيما يدّعونه من النبوّة.

وقد تعطى لرُسُل الأنبياء بالنيابة فقط.

فهذه الخوارق تقع للأنبياء بالآصالة، وتقع لرُسُلِهم بالنيابة.

كما وقع للطفيل بن عمرو الدوسي، عندما بعثه النبي رسولاً له إلى قومه قبيلة دوس، فطلب من النبي آية تدل على صدقه عند قومه، فأعطاه الله تبارك وتعالى النور في رأس سوطه. 

فهذا شيء خارق للعادة. أعطيه الطفيل للدلالة على أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بطلبٍ من الرسول صلى الله لعيه وسلَّم إلى ربه.

وقد وجدت نحو ذلك في سيرة عيسى عليه السلام، الذي يسميه النصارى الإنجيل، حيث جاء فيها ما نصّه على لسان عيسى عليه السلام، وهو يوصي رُسُله إلى الناس، يدعونهم إلى الإسلام: "

وتعطى لرسل الأنبياء، للدلالة على صدق الأنبياء الذين أرسلوا هؤلاء الرُسُل.

فإذا كانت خوارق العادات تعطى الأنبياء للدلالة على صدق نبوّتهم، فالسؤال هنا: لماذا يُعطى الشيخ الصوفي أو الشيخ الرافضي هذه الخوارق؟! وأيّ شيء يريد أن يثبته هذا الشيخ من خلال ادعائه وقوع خوارق العادات له؟!

الجواب: هم يقولون، لنثبت بها صحّة ولايتنا، وأننا أولياء صالحين.

حسناً: أنا كمسلم، ما الذي سوف أستفيده من كونك وليّاً صالحاً، إذا كنت وليّاً صالحاً فهذا بينك وبين الله تعالى، والله هو من يجزيك على صلاحك، ومنحك هذه الولاية لأجل صلاحك، فما شأني أنا هنا، حتى تقنعني بأنك ولي صالح؟!

الجواب يقولون: حتى تجعلنا واسطة وشفعاء بينك وبين الله تعالى - وهم لا يعنون طبعا الواسطة والشفاعة المباحة التوحيديَّة، بل الواسطة والشفاعة الشركية - أي: أن تصرف لهم العبادة لهم من دون الله، فبدل أن تسارع في مرضات الله تسارع في مرضاتهم، وبدل أن تدعو الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، تجعلهم أندادا لله ومثلاء وأكفاء له في كمال صفاته، فتصرف لهم الدعاء في كل شيء، حتى فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى! وبدل أن تعلِّق قلوب العباد بربهم، يريدون منك أن تُعلِّق قلبك بهم.

وهكذا!

هذا هو ما يُصرِّحون به بأنفسهم.

وما الذي يستفيدونه؟!

الجواب: سوف يستفيدون عدة أمور:

أولها: الجاه والشرف.

وثانيها: المال، حيث يفرضون على أتباعهم تقديم الصدقات والنذور لهم.

وإلا فليس هناك أي حاجة ليكتسبوا هذه الخوارق.

حسناً: خوارق العادات هذه من أين تأتي هؤلاء الدجالين، وكيف تقع لهم؟

الجواب: باعتراف من تاب إلى الله تعالى منهم، وفاء إلى الإسلام، أنها تأتيهم بواسطة شياطين الجنّ، حيث أنهم في الحقيقة، يتعلمون السحر والشعوذة، فإذا أرادوا التظاهر بوقوع خارقة من خوارق العادات لهم، استخدموا هذا السحر، فيسحرون أعين الناس ويسترهبونهم بهذا السحر، ويقولون: ما رأيتم هو كرامة من الله تعالى.

ويطلبون من الشياطين أن تحملهم فتحملهم وتطير بهم، فيراهم الناس يطيرون في الهواء.

ويطلبون منها أن تبلِّط لهم البحر، فيبلطون منه ما يكفيه لمسيره على البحر، فيراهم الناس يمشون على البحر.

وكل هذا مجرد سحر وتخييل.

وخوارق العادات التي تقع للأنبياء ليست سحراً وتخييلاً بل هو حقيقة ناصعة.

وتظاهر هؤلاء الدجالين بوقوع خوارق العادات لهم هو الذي دفع بعض علماء السنة المتقدمين أن يقولوا: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء، فلا تغترّوا به، حتى ترو اتباعه للكتاب والسنّة.

بمعنى: أنه إذا كان من متبعي الكتاب والسنة، فهذه كرامة، وإن خالفهما فهو دجّال.

وكما قلت سابقاً خوارق العادات لا تقع إلا للأنبياء بالآصالة، ولرُسُلهم بالنيابة، ولكن غيرهم من الناس لا تقع لهم.

فأي شخص تجده "يتباهى" بوقوع خوارق العادات له، ويسميها كرامات، مباشرة تعلم أنه دجال وساحر ومشعوذ لا أكثر.

والحقيقة، أنه يستحيل أن تجد دجّالاً من الدجاجلة الذين تقع لهم خوارق العادات، متّبعاً للكتاب والسُّنَّة، لأن شياطينه لا تقرّه على ذلك أساساً، بل إن من شروط خدمتهم له، أن يخالف الكتاب والسُّنة، وأن يدعو الناس إلى الشرك بالله تعالى.

لذلك تجد كثير منهم، يرفض قبول القرآن أو السُنّة في باب العقائد، فإذا نهي عن دعاء غير الله، دعا غير الله، وإن نُهي عن البناء على القبور، بنا على القبور، وإن أمر بطاعة، لم يقم بها على وجهها، وانقص منها أو زاد فيها ما ليس منها.

وتجده يجتهد في صرف الناس عن أخذ دينهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم، ويأمرهم بالأخذ بما في كتبه وما يقوله لهم فقط.

هذا بعضهم، وأما بعضهم، فدجّال صرف، لم يتعلم السحرولا يعرف كيف يعمله، ولكنه يستخدم الخدع، وهذا النوع من الدجّالين، لا يستطيع أن يطير في السماء ولا أن يمشي على الماء، ولا أن يحوِّل الحصى ذهباً، أو يجعل الجماد يتكلَّم أو تتحرك، أو غير ذلك من الأمور العجيبة. ولكنه يقوم ببعض الخدع السخيفة التي يستطيع القيام بها من تدرب عليها من عامة الناس، ولكن عامة الناس ممن لم يتعلم هذه الخدع، ولا يعرف أنه يمكن أن تحدث، قد تلفت انتباهه، وتستثير إعجابه.

ولن يعدم الشخص معرفة النبي من الدجال.

فالنبي لا يدعو إلا إلى الله تعالى وحده لا شريك له، ولا يأمر إلا بالمعروف، ولا يوصي إلا باتباع تعاليم الله تبارك وتعالى.

والدجال، لا يدعو إلّا إلى نفسه، ولا يأمر إلّا بالمنكر، ولا يوصي إلا باتباع خُزُعبلاته وأباطيله.

حتى أن منهم من يصف القرآن بانه ليس كتاب هدى ولا حجة، أو يقول بأن الأخذ بظاهره من أصول الكفر، 

فأين الحجة ومن الأخذ بظاهره من أصول الإسلام عنده وعند أمثاله من الملاحدة؟

الجواب: في هذرماته واباطيله التي يسطّرها لاتباعه في كُتُبه، كُتُبه التي استبدل كتاب الله وسنة رسوله بها، بل إن منهم، من ينهى عن قراءة القرىن وكتب السنّضة النبويَّة، لانها بزعمه - وهذه حيلة ماكرة منه - لا يفهمها إلا كبار العلماء!!

وهذه من حكمة الله تبارك وتعالى، أنه يفضح هؤلاء الدجالين، ويبيّن حالهم للناس.

فالذي يتّبع الدجّال، إنما اتبعه لزيغٍ في قلبه، وانحراف في فكره، وضعفٍ في عقله، واتّباعٍ لشهواته.

وليس لهم عذر.

وإلا فأمر هذا الدجال جليٌّ واضح لا يخفى على كل ذي لُبّ.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.

هل الشرك لا يكون شركاً أكبر إلا إذا اقترن معه اعتقاد الربوبية في المدعو من دون الله؟ والرد على باحميد والعوني.

في هذه الحلقة سوف نتكلم عن مسألة أثارها بعض مشركي المتكلمين والصوفية، حيث زعموا أن دعاء غير الله تعالى لا يكون شركاً إلا إذا اقترن به وصف المدعو من دون الله بالربّ، أو اُعتقِد استقلال المدعو من دون الله بالنفع والضرّ، أو أنه يشفع بدون إذنٍ من الله تعالى، 

وقد وافقهم على ذلك بعض أهل الأهواء، ممن لم يوفِّقهم الله إلى الحق، من المنتسبين أو كانوا ينتسبون إلى المدرسة السلفية، 

حيث زعموا أن دعاء غير الله تعالى لا يكون شِركاً أكبر مخرج من الملَّة إلّا إذا اقترن به وصف المدعو من دون الله تعالى بالربّ، أو ادعى استقلال المدعو من دون الله بالنفع والضر، أو أنه يشفع بدون إذن من الله تعالى.

وسوف نقوم بالرد على الجميع، بإذن الله تبارك وتعالى.

فأما مشركو المتكلمين والصوفية.

فإنهم لأجل ولههم بالشِرك وبالعبودية لغير الله تعالى، لم تطب نفوسهم بالرجوع عن هذا الشِرك، ولذلك بدأوا في الاحتيال لشرعنة هذا الشِرك، بطرح بعض الشبه عن طريق طرح بعض الاستدلالات الخاطئة، التي يمكن نقضها بأيسر الطرق، بحول الله وقوّته، 

وهم ما طرحوا هذه الشبة وهذه الاستدلالات، إلا لأجل أن يقنعوا، أنفسهم ويقنعوا أتباعهم، ويُروّجوا للشرك عياذاً بالله تعالى من هذا الضلال.

فزعموا في البدء أن عملهم هذا ليس شركاً،

واحتجوا على ذلك، بأنهم يعتقدون أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله وحده، وأن الملك والخلق لله وحده، ولكنهم يعتقدون بأن الذين يدعونهم من دون الله تعالى، من المخلوقات، ويذبحون لهم وينذرون لهم، لهم وجاهة ومكانة عند الله تعالى، فهم يدعونهم من دون الله تعالى، وهؤلاء الشُركاء يدعون الله تعالى لهم، فيستجيب الله لهم فيهم.

والسبب في ذلك عندهم، هو أنهم قومٌ متلبّسون بالذنوب والخطايا، فإذا دعوا الله مباشرة فلن يستجيب لهم، لذلك اتخذوا هؤلاء المدّعوّون واسطة وشفعاء لهم عند الله تعالى.

والجواب على هذه الشبهة: أن هذا هو عين شرك مشركي قريش في الجاهلية، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) وقال تعالى: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) 

فلم يكن مشركي قريش يعتقدون في ألهتهم أنها تنفع وتضر من دون الله، بل تنفع وتضر بإذن الله تعالى، وإنما يدعونها بزعمهم لما لها من مكانة ووجاهة عند الله، وهي تدعو الله لهم، فيستجيب الله دعائها، فيدفع عنهم ما يضرهم، ويجلب لهم ما ينفعهم.

فلما رأى مشركوا المتكلمين والصوفية والرافضة، أن هذه الحيلة قد بطلت، زعموا أن مشركي العرب قبل الإسلام كانوا يعبدون الأحجار والأشجار، بينما هم يدعون أناساً صالحين، من أنبياء وأولياء، ولا يقاس الأنبياء والأولياء بالحجر والشجر، بزعمهم!

والجواب على هذه الشبهة: أن هذا باطل، فمشركو العرب قبل الإسلام، كانوا يدعون الملائكة، ويدعون الجنّ، ويدعون الصالحين، زيادة على دعائهم للأحجار والأشجار، ومع ذلك وصف الله تعالى فعلهم بأنه شرك، على كل حال، فقال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)

فلما رأوا أن هذ الحيلة قد بطلت، زعموا أن دعاء النبي والولي من دون الله تعالى لا يكون شركاً إلا إذا اقترن معه اعتقاد الربوبية في المدعو من دون الله تعالى.

واحتجوا على ذلك بقوله تعالى في سورة آل عمران: قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ كَلِمَةࣲ سَوَاۤءِۭ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَقُولُوا۟ ٱشۡهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ

وقوله تعالى في سورة آل عمران: وَلَا یَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَیَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ

وقوله تعالى في سورة التوبة: ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ ٰ⁠حِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ

وقوله تعالى في سورة يوسف: یَـٰصَـٰحِبَیِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابࣱ مُّتَفَرِّقُونَ خَیۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰ⁠حِدُ ٱلۡقَهَّارُ

وقالوا: بأن هذا دليل على أن الشِرك في الدعاء أو الذبح أو النذر أو الصدقة، لا يكون شِركاً، إلّا إذا اقترن معه اعتقاد الربوبية في المدعو من دون الله تعالى! فإذا وصفه بأنه ربّ فقد وقع في الشرك الأكبر!

وأما ما عدا ذلك، فهو عمل مباح، بل قربى لله تعالى!

والجواب على ذلك: أن هذا قول باطل، 

فعند هؤلاء القوم، أن الله تعالى ما أرسل الرسل وأنزل الكتب، إلّا ليقول لأبي جهل وأبي لهب وأبي بن خلف لا بأس أن تدعو غير الله من ملاك أو إنسيّ أو جني أو حجر أو شجر، ولكن لا تقولوا عن معبودكم من دون الله تعالى بأنه ربّ أو إله!!

وهذا قول لا يقول به إلا أسخف الناس عقلا وأسقمهم فهماً، لأنه جعل الدين قشوراً بلا لب وعنواناً بلا مضمون. وخالفوا صريح الكتاب والسنة ببهرجة من القول يلبسون بها على من أعمى الله بصيرته.

فآيات القرآن العزيز، والسنة النبويَّة، لم تنصّ على أن هذا شرطٌ في الحكم على من دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو ذبح له أو نذر له أو تصدق له لأجل ذلك، بالشرك والكفر. 

فهذا أول دليل على بطلان قولهم، وأنه ادعاء منهم، أفرزته أوهامهم، مما لم يأتي به وحي عن الله أو حديث عن رسول الله، وكانوا فيه على الله وعلى رسوله من الكاذبين.

ويدل على ذلك، أن الله تعالى في كثير من الآيات كان يوبِّخ المشركين على دعائهم غيره، فلو كان دعاء غير الله تعالى، لا يكون شركاً إلا إذا اقترن معه التصريح باعتقاد الربوبيَّة أو الألوهية، في المدعو من دون الله تعالى، لما وبّخهم الله تعالى على دعائهم غيره، ولكانت جميع الآيات وردت في توبيخ المشركين في تصريحهم بأن معبوداتهم من دون الله رَبّضة وآلهة، وهذا هو الدليل الثاني على بطلان قول هؤلاء القوم.

ومما يدل على بطلان قولهم، هو ما ورد في سورة التوبة، في قوله تعالى: "ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ ٰ⁠حِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ"

فإن اليهود والنصارى، لم يكونوا يصفون أحبارهم ورهبانهم بالأرباب أو الآلهة، فأخبر الله تعالى، أن مجرّد طاعتهم في مخالفة أمر الله تعالى، اتّخاذٌ منهم لأحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى.

وهذا يدل على أن مجرد صرف المخلوق العبادة لغير الله تعالى، أو طاعة غير الله تعالى في مخالفة أمر الله تعالى، هو من اتخاذهم أرباباً، وإن لم يصفهم المخلوق بأنهم أرباب أو ألهة.

قال عدي بن حاتم الطائي: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه, ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم! فوصف الله اليهود النصارى بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى، وأنهم عبدوهم من دون الله، مع أنهم لم يصفوهم بالربوبية مطلقاً، ولا قالوا بأنهم آلهة تعبد، فكان مجرد العمل، كاف في اتخاذهم لهم أرباباً وألهة تعبد! ثم انظر كيف فهم عدي - وأقره النبي على هذا الفهم - من اتخاذ الشيء رباً هو من اتخاذه ألهة، وأن طاعته فيما خالف أمر الله تعالى، من اتخاذه آلهة.

ومما يدل على بطلان قولهم، أن العرب كانت تقول: رب القبيلة، اي: سيدها، ورب القرية، أي: سيدها، ورب الإبل والغنم والبقر والخيل والبغال والحمير، أي: راعيها، ورب البيت، أي راعيه. بل إن يوسف عليه السلام، وصف ملك مصر، بأنه ربٌ للساقي، ولم يأتي الشرع بإنكار هذا الوصف لغير الله تعالى، إن كان مقصود القائل أن هذا الموصوف بالرب ليس معبوداً يصرف الدعاء له من دون الله تعالى، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وإنما ورد في السُنَّة كراهية ذلك، فهو مكروه في شرعنا.

وإنما جميع الآيات في إنكار صرف الدعاء لغير الله تعالى، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.

ثم إن ادعائهم جواز دعاء غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، مع عدم اعتقاد الربوبية أو الألوهية في المدعو من دون الله، هو بحد ذاته يحتاج إلى دليل على جوازه، لأن مسائل الدين توقيفيَّة، وليست بالرأي والهوى والمزاج، فكل من هبّ ودبّ يزيد في الدين ما يشاء، حتى لو خالفت الأدلة الشرعية، ويقول هذه قربى!!

وأوّل من قال بهذه الحجة السخيفة، والدعوى البليدة، هو أحد كبرائهم الذين علموهم الشرك، وهو: سلامة القضاعي العزّامي، في كتابه البراهين الساطعة في رد بعض البِدع الشائعة، بزعمه أنه يريد أن يرد على البدع الشائعة في زمانه، ومنها النهي عن دعاء غير الله، هذه عنده بدعة نكراء، يجب إزالتها، وكذلك إثبات صفات الله تعالى عنده بدعة نكراء يجب إزالتها، وحرف فيها معاني كلام الله وكلام رسوله بما لا تعرفه العر بمن كلامها، إنما هي معانٍ اختلقها هو واسلافه ليردوا بها محكمات الكتاب والسنة، التي تدمغه هو وأهل ملّته جميعاً!!

حيث ينصّ في كتابه المذكور، أن دعاء غير الله تعالى، لا يكون شركاً إلا إذا اعتقد الداعي أن المدعو من دون الله تعالى ربّاً، أو مُستقِّلَّاً بالنفع والضر من دون الله تعالى، أو أنه يشفع من دون الله تعالى.

فهذه الحالات عنده، هي الشرك الأكبر المخرج من الملة.

وتفنّن في إثبات دعواه بضرب الأمثلة التي لا علاقة لها بأصل الموضوع، وما أوردها إلا للتلبيس على الناس.

والجواب على ذلك: أنه ما كان مشركي قريش يعتقدون أن معبوداتهم من دون الله تعالى، تنفع وتضر من دون الله تعالى، ولا كانوا يعتقدون بانها تشفع بغير إذن الله تعالى، وهذا منصوص عليه في القرآن، الذي لا يجاوز حناجر هؤلاء المشركين، عندما يقرأونه، وكانوا يصفونها بالأرباب، كما يصفون سيد القبيلة وسيد القرية ومالك الإبل والبقر والغنم والمزرعة والبيت بالربّ.

ولا كان اليهود والنصارى، يصفون أحبارهم ورهبانهم بأنهم أرباب، وإنما أخبرنا ربنا بأن مجرد طاعتهم في مخالفة أمر الله، هو من اتخاذهم أرباباً.

فهذه حُجج قاطعة رادعة لكل صاحب هوى أعمى الله بصيرته.

وهذه الحجّة، كما قلت سابقاً، احتج بها بعض أهل الأهواء، ممن لم يوفّقهم الله تعالى إلى الحق، ممن ينتسبون أو كانوا ينتسبون إلى المدرسة السلفية، حيث زعموا أن صرف العبادة لغير الله تعالى، لا يكون شركاً أكبر مخرج من المِلَّة إلّا مع اعتقاد الربوبية في المعبود من دون الله تعالى.

وهم إنما أخذوا هذا القول عن إمامهم المشرك سلامة القضاعي العزّامي، وحسبك بقومٍ حاصل علمهم أخذوه من أمثال القضاعي.

وقد فندت هذه الحجة، وبيّنت أن مجرد صرف العبادة الشرعية لغير الله تعالى، شرك أكبر، مما يغني عن إعادة الرد.

وكان أحدهم، كثيراً ما يردد ويتحدى السلفية في أن يعطوه ضابط العبادة، الذي من صرفه لغير الله وقع في الشرك الأكبر، ولكن الله تعالى وفّقني في الرد عليه، وبيَّنت ضابط العبادة، في حلقة مستقلة في قناتي الشرعية فلتراجع.

وأما بعضهم، فقد زاد من عنده حجَّة أخرى، حيث احتج بأحاديث الشرك الخفي، وهو شِرك الرياء.

حيث زعم أن الرياء شِرك، ومع ذلك من وقع فيه لا يكفر، مع كونه شِركاً، فاستدل بذلك، على أن الشرك حقّاً لا يكون شركاً أكبر مخرج من المِلَّة، حتى يقترن به اعتقاد الربوبيَّة في المدعو من دون الله تعالى!

وهذا قول باطل، لما قدمته من الحُجج البيّنات.

وزيادة على ذلك، نكشف هذه الشبهة، في احتجاجه بأحاديث الشرك الخفي.

ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، اسماه الشِرك الخفي، لأنه يخفى حتى على من وقع فيه، من المسلمين.

فالعبد، عندما يقوم بعبادة من العِبَادات، أو طاعة من الطاعات، فهو ينوي أنها مقدمة لله تعالى، ولكن، يدخل الشرك فيها من أبواب أخرى.

فمثلا: الشخص يؤدي الصلاة وهو ينوي أنها لله تعالى، ولكن قد يزيّن صلاته إذا رأى أحداً من الناس ينظر إليه. 

وقد يحافظ على صلاته مع الجماعة، ليقول الناس بأنه محافظ على صلاته مع الجماعة. 

وقد يتصدّق وينوي بصدقته لله تعالى، ولكن إذا رأى الناس تنظر إليه، دخل في قلبه أنهم يثنون عليه، ويصفونه بانه صاحب طاعة وصاحب صدقات، وأنه كريم.

ولكنه كان سوف يصلّي حتى لو لم ينظر إليه الناس، وإن لم يكن سوف يُزيّنها كما يُزيّنها لو كان أمام الناس. 

وكان سوف يصلي جماعة، حتى لو لم ينظر الناس إليه، وإن لم يكن سوف يحافظ عليها دائماً مع الجماعة، كما يحافظ عليها أمام الناس. 

وكان سوف يتصدٌق لله، وإن لم يره الناس.

ولذلك أسماه النبي "الشرك الخفي" لأن صاحبه قد لا يردك أنه قد وقع فيه، أو لا يعلم أن هذا شرك.

ومع ذلك، فهذا الشرك الخفي، وإن لم يرتقي بصاحبه إلى الشرك الأكبر، إلّا أنه محبطٌ لعمل العبد.

ولذلك اشتدّ خوف النبي صلى الله عليه وسلم على المسلم من هذا الشرك، لأ، المسلم يقع فيه وهو لا يدرك ذلك، ويذهب عمله وجهده وتعبه هباءً منثوراً.

ولكن لو أن شخصاً لا يٌصلي إلا إذا رآه الناس، فإن لم يروه لم يٌصلّ بتاتاً، لا في مسجده ولا في بيته. 

ولا يتصدق إلا إذا رآه الناس، فإن لم يره الناس لم يتصدّق مطلقاً، 

وقس على ذلك باقي العبادات، 

فهل تظنون أن هذا شرك خفي؟!

هذا لم يعد شركاً خفيّاً، بل هذا هو الشرك الأكبر، وإن مات على ذلك خُلِّد في النار، 

عياذاً بالله من غضبه وعقابه.

فهل بالله عليكم يساوى الشِرك الخفي، بالشرك البيّن الظاهر.

وهل يعتبر بعد ذلك حجّة لهؤلاء الضالين، ليزعموا: أن الشِرك في العبادة لا يكون شركاً أكبر إلا إذا اقترن معه اعتقاد الربوبيَّة في المدعو من دون الله تعالى.

لا شك أن ذلك غير صحيح.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

والله أعلم وأحكم.