مسألة اللفظ والملفوظ وما هو كلام الله الغير مخلوق.

انقسم أئمة السنة في هذه المسألة على ثلاث فرق، كل فرقة تدعي أنها أصابت الحق في هذه المسألة.

فالفرقة الأولى قالوا: بأن اللفظ والملفوظ واحد، وأن كلاهما فعل الله تعالى وتقدس، وإنما قالوا هذا القول، فراراً من القول بخلق القرآن، لأنه بزعمهم، إذا فرقوا بين اللفظ والملفوظ، وزعموا أن اللفظ مخلوق، فقد زعموا أن القرآن الذي بين أيدينا مخلوق، كونه لا قرآن إلا ما نتلوه بأفواهنا.

والفرقة الثانية قالوا: بأن اللفظ والملفوظ مختلفان، وإنما بنو قولهم على أن تلاوة القرآن بأفواه العباد، وأفواه العباد مخلوقة، وإذا كان كلام الله غير مخلوق، فبالتالي فرّقوا بين اللفظ والملفوظ. فقالوا: اللفظ فعلنا بأفواهنا وهي مخلوقة، والملفوظ القرآن وهو كلام الله الصادر من ذاته، وذاته سبحانه ليست مخلوقة.

وممن قال بذلك: الإمام نعيم بن حماد وتابعه الإمام البخاري، وألّف في ذلك كتابه الشهير: خلق أفعال العباد.

وأما الفرقة الثالثة، فلم تحسن شيئاً من هذا كله، لذلك آثرت السكوت عن هذا الأمر والخوض فيه.

والإمام أحمد بن حنبل، سلك مسلك الفرقة الثالثة، وهو السكوت، وهو مذهب الجمهور، كما يزعم البعض، ولم أتثبت من أن هذا هو مذهب الجمهور.

وأذكر هنا خبراً وقع للإمام أحمد بن حنبل مع تلميذه أبي طالب، حيث سأله أبو طالب عن اللفظ والملفوظ، فلم يحسن الإمام أحمد أن يجيب على سؤاله، وأعطاه كلاماً فهم منه أبو طالب أن الإمام أحمد بن حنبل يقول بالحلول الجزئي، فأخذ ذلك وكتب به لبعض معارفه، فبلغ الإمام أحمد ما فعله أبو طالب، فغضب منه، ووبّخ أبو طالب، وقال له: أنا لم أقل لك ذلك. أي: تبرأ مما فهمه أبو طالب من كلامه.

وهذا إن دلّ، دلّ على أن الإمام أحمد لم يعطه جواباً صريحاً بيّناً في المسألة، ثُمّ لم يُبيّن له وجه الحق فيها، بعد أن خَطَّأ أبو طالب في فهمه لكلامه! وهذا فيه إشارة واضحة بأن الإمام أحمد لم يكن يدري ما هو الجواب الصحيح لهذه المسألة.

ثم صار الإمام أحمد بن حنبل، يفتي بالسكوت عن هذه المسألة.

بل أفتى بأن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع.

ولاحظوا أنه اكتفى فقط بتبديع من قال "لفظي غير مخلوق" مع أن قائل هذا القول، يلزمه القول بالحلول الجزئي! بينما جهّم من قال لفظي بالقرآن مخلوق، والجهمية في مذهب الإمام أحمد: كفّار! 

والقول بالحلول سواء كان كلّيّاً أو جزئيّاً قول عظيم، وفرية شنيعة. إذا جعلوك في تلك اللحظة التي تقرأ فيها القرآن أنت الإله أو أن جزءاً منك، وهو الصوت والحرف الصادر منك، صار إلهيّاً، ولا ينفصل اللاهوت من الناسوت إلا بعد فراغك من القرآن، فليت شعري أي قول أقبح من هذا وأشنع، إنه لا يقل شناعة وقبحاً عن القول بأن القرآن مخلوق، وربما أشنع وأقبح!

والذي أثار استغرابي، هو أن الإمام أحمد مع كونه أفتى بالسكوت في هذه المسألة، وهو ما يشير إلى أن الإمام أحمد لم يهتد إلى الحق فيها، نجده عندما بلغه قول الإمام نعيم بن حمّاد بأنه يجب التفريق بين اللفظ والملفوظ، قال: ملأ الله قبره ناراً! فإذا كان الإمام أحمد لا يعرف الجواب الحق في هذه المسألة، فما أدراه لو أن الإمام نعيم أصاب الحق فيها؟!

وقد أخذ المتأخرون يقتبسون الأعذار لمن أفتى بالسكوت، بدعوى أنهم أفتوا بالسكوت عن ذلك، لأن هذه الأقوال فيها إيهام وإجمال واحتمال.

وهذا في الحقيقة غير صحيح، لو كان صحيحاً لما دعا الإمام أحمد على الإمام نعيم بن حمّاد بالعذاب في القبر لقوله بالتفرقة بين اللفظ والملفوظ، وإنما غلب على ظنّه أن نعيم عاد جهمياً بقوله أن اللفظ بالقرآن مخلوق، فدعا عليه لذلك، بدلالة أن الإمام أحمد نفسه قال: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي".

وهذا غريب جدّاً! فكلام الإمام نعيم بن حمّاد لا يشبه قول الجهمية، وأين قول الجهميّة من قول نعيم؟

بل إن قول: "لفظي غير مخلوق" الذين أكتفى الإمام أحمد بتبديعهم، أكثر شبهاً بقول الجهميّة من قول نعيم بن حماد، لأن فيه شبهاً بقول الجهميَّة، الذين يدّعون أن الله تعالى في كلّ مكان!

فما هو الحق في هذه المسألة وما الدليل على ذلك:

إنه لا بد من أن يلزمك أحد أمرين: إما أن تقول بأن اللفظ والملفوظ شيء واحد، أو تقول بأن اللفظ والملفوظ شيئان مختلفان، لأنه لا يوجد حالة أخرى يمكن أن تعتبرها خياراً متاحاً، سوى السكوت، والسكوت ليس جواباً، بل هو عجز عن الجواب، وعجز عن إدراك الصواب في المسألة المسكوت عنها.

والحق إن شاء الله تعالى هو مع أصحاب القول الثاني، وهو التفرقة بين اللفظ والملفوظ.

لأنك إذا لم تفرق بين اللفظ والملفوظ، لزمك أمران:

الأول: أن تقول بأنهما فعل العبد وبالتالي مخلوقان، وبالتالي تقرّ بأن القرآن مخلوق، وهو قول الجهميّة، الذين يريدون نفي صفات الله تعالى الثابتة بالكتاب والسنّة.

والثاني: أن تقول بأنهما فعل الله تعالى، وبالتالي هما غير مخلوقان، وهنا يلزمك القول بالحلول الكلّي أو الجزئي، والحلول الكلّي قول طائفة من الجهميّة أيضاً، فالخالق والمخلوق عندهم هو الله تعالى وتقدس عن قولهم علواً كبيراً، فلا خالق إلّا الله، ولا مخلوق إلّا الله، قبّحهم الله وأخزاهم. والقول بالحلول الجزئي أيضاً شنيع قبيح، إذ جعلت الله تعالى وتقدس أو شيئاً منه، يحلّ في لسانك وأسنانك ولهاتك وحلقك وريقك، تعالى الله وتقدس عن ذلك.

أمّا إذا فرّقت بين اللفظ والملفوظ، فقد أعطيت كل ذي حقٍّ حقّه.

فالله له كلامه صوته وحرفه، الغير مخلوق، والعبد له كلامه صوته وحرفه المخلوق، فكلام الله تعالى بالقرآن أو غير القرآن ليس مخلوقاً، وكلام العبد بالقرآن أو غير القرآن مخلوق، فالعبد يقرأ القرآن بصوته وحرفه، وهما قطعاً من فعله، لا يشكّ في ذلك ولا يُمترى.

والسؤال هنا: هل بناءً على ذلك يكون القرآن الذي نتلوه ونكتبه في المصاحف مخلوق؟

والجواب: ليس مخلوقاً، لأن الكلام إنما ينسب إلى قائله ابتداءً، وليس للمُؤدي له.

ومثال ذلك: لو أن شخصاً أخبرك بكلام شفويّاً، أو طلب منك كتابته في ورقة، ثم أمرك أن تبلغه رجلاً أخر. فبلغته ذاك الرجل، فلو سألك ذاك الرجل: هل هذا كلامك؟ فسوف تقول: لا، هو كلام فلان. فنسبت الكلام إلى قائله ابتداءً.

فكذلك القرآن إنما ينسب لقائله ابتداء.

لذلك نقول: أن القرآن ليس مخلوق، لأننا نسبناه لقائله ابتداءً، لأنه كلام الله ومن علم الله، وهما ليسا مخلوقان، لأنهما صفتان لله تعالى، وصفات الله من الله وليس من الله شيء مخلوق، نثبت بذلك أن لله تعالى كلاما وعلما هما صفتان ذاتيتان له.

ولكن الأدوات التي استخدمت في قراءته أو كتابته مخلوقة قطعاً، فأفواهنا التي نتلو بها القرآن مخلوقة، وأصواتنا التي نُسْمِعُ بها القرآن مخلوقة، والحبر والورق الذي كتب به القرآن مخلوقة أيضاً.

فأفواهنا نحن المخلوقات، كالحبر والورق الذي تُرسم به كلمات الله التي تكلم بها، هي مخلوقات يُؤدَّى بها كلام الله الغير مخلوق.

ولكن لا نقول بأن قراءتنا بأفواهنا هي عين قراءة الله تعالى، ولا نقول بأن رسم كلمات القرآن بالحبر على الورق هي عين كلام الله تعالى. 

ولا أحد يقول: بأن الكلمات المرسومة بالحبر على الورق، سواء كانت قرآناً أو غيره، أنه كلام، لأن الكلام لا يكون إلا صوتاُ منطوقاً ملفوظاً، ومن يقول بذلك قليل عقل وفقه، لأن ما كتب بالحبر على الورق، ليس سوى رسم لهذه الكلمات، لتقييدها.

وإنما نحترم المصحف ونجله، لأن الكلمات المرسومة فيه، هي كلمات الله عزّ وجلّ.


ومثال ذلك، لو رُسِمت صورة شخصٍ له قدر عظيم في قلبك، على ورقة، فإنك لو سُئِلت من هذا؟ فسوف تقول: فلان. وأنت بالطبع لا تريد أن هذه الصورة هي عين فلان، وذاته الحقيقية، وإنما تريد أن تقول: هذه صورة فلان، وإنما اختصرت الجواب، وأشرت إلى الصورة إشارتك إلى الذات الحقيقية، لعلمك أن السائل، إنما يريد أن يسأل عن اسم صاحب الصورة. وإذا كان صاحب الصورة ذو قدر عظيم في قلبك، فمن المحال أن تُهين صورته بأي شكل من الأشكال، وهذا ما جُبِلت عليه النفوس، فكذلك صورة كلمات الله المكتوبة في المصحف، عندما تُسأل: هذا كلام من؟ سوف تقول: هذا كلام الله. لعلمك أن السائل إنما يريد أن يسأل عن عين الكلام الذي تم تصويره في المصحف، ولا شك أنك سوف تجل المصحف وتكرمه، لأن الصورة التي فيه، هي صورة كلام الله تعالى.


وهنا يكمن الفرق بين المذهب الحق، ومذهب المتكلمين الجهمية، إذ أن المتكلمين ينسبون الكلام لناقله وليس للمنقول عنه -أي: قائله ابتداءً- وللكتابة، وليس للمكتوب عنه. ومن هنا جاء قولهم أن القرآن الذي بين أيدينا مخلوق.

ثم هم لا يثبتون لله صفة كلاماً على الحقيقة، بل ينكرونها صراحة كالجهمية المعتزلة، أو يموهون، كالجهمية الاشاعرة والماتريدية، فكلام الله عندهم ليس صوتاً ولا حرفاً، بل هو حديث نفس فقط، ثم هو عندهم لا يتعاقب ولا يتتالى، بل هو أشبه ما يكون عندهم بموجة واحدة متّصلة، بلا صوت ولا حرف. ولا تسألهم ما دليلهم على هذا القول، لأنه لا دليل لديهم، هو شيء أفرزته عقولهم المريضة فقط، فالكلام بصوت وحرف عندهم كله مخلوق، وبالتالي، فالقرآن العربي مخلوق إطلاقاً.

وقولي بأن الجهمية الأشاعرة والماتريدية يُموّهون، لأنهم يتظاهرون بموافقة أهل السنة في القول بأن القرآن كلام الله، فإذا سألتهم ما هو كلام الله عندكم، قالوا: هو حديث نفس فقط وليس بحرف ولا صوت، ولا يتعاقب ولا يتتالى، وهذا عين كلام المعتزلة، اللهم إنهم خالفوهم فقط في وصف حديث النفس بأنه كلام، وهذا ما لم توافقهم عليه إخواتهم المعتزلة.

وهذا معنى قول أئمة السنة بأن الأشاعرة والماتريدية تمسكوا بأصول المعتزلة وخالفوهم في الفروع.

ومن هنا نتيقَّن، أن ما ذهب إليه الإمام نعيم بن حمّاد ووافقه عليه الإمام البخاري، هو الحق إن شاء الله في هذه المسألة، لوضوح قولهما وقوّة حجتهما، وموافقتهما للعقل الصحيح والفطرة السليمة، وأن من خالفهما لم يأتي بحجة ولا دليل صحيح صريح مقنع، إنما اكتفى بالمعارضة فقط!

تنبيه: الفعل أصالة ليس بشيء، حتى يقال بأنه مخلوق أو غير مخلوق. 

فالفعل هو: حركة الذوات والآثار الناتجة عن هذه الحركات، إن كان لها أثر مخلوق.

والأئمة عندما يقولون: الفعل مخلوق أو غير مخلوق. إنما يعنون الذوات التي صدر منها الفعل، وآثار هذا الفعل. فلا وجود للفعل إذا غابت الذوات، وليس له أثر.

والفعل مثل الزمن، فالزمن لا وجود له ولا أثر له في غياب الذوات التي يتم من خلالها تقدير الزمن.

فالفعل والزمن وما شابهها، هي معانٍ فرضت، لوصف حركات الذوات وآثارها فقط.

إن أصبت فمن الله وحده وإن أخطأت في شيء فمن نفسي والشيطان واستغفر الله وأتوب إليه.