من أين أخذ الأشاعرة والماتريدية بدعة الكلام النفسي؟

قال يوحنا الدمشقي النصراني: "هذا الإله وحده ليس هو خائباً من كلمة، فله كلمة ليست خائبة من قنوم، ليست مبتدئة الوجود ولا منتهية، لأن الإله ما كان في وقت من الأوقات خائباً من كلمة .. مولودة منه دائماً". 

وقال: "وليست كلمته مثل حكمتنا خائبة من قنوم، ومتدفقة في الهواء، لكن كلمته ذات قنوم حيّ كامل ليس متميزاً منه، لكنه موجود فيهى دائماً، لأنه إذا كانت كلمته خارجاً منه فأين تكون؟ ولَعَمْري إن طبيعتنا إذ هي بالية سريعة الانحلال، لذلك توجد كلمتنا خائبة من قنوم". 

وقال: "وينبغي أن نعلم أن حركة عقلنا الأولى، تدعى فهماً، والفطنة بشيء من الأشياء تدعى هَِّمة، فهذه إذا ثبتت ورسمت في أنفسنا قِيماً قد فطنت به تسمى رويّة، والروية إذا ثبتت في بحث واحد بعينه، وميَّزت ذاتها، وتصفحتها، تسمى بصيرة، والبصيرة إذا اتسعت، فمن شأنها أن تولِّد الافتكار المسمى قولًا مستكيناً .. ومنه يبرز .. الكلام البارز منطوقاً به باللسان .. ".

وقال: "والقوة الناطقة من النفس أيضاً، تنقسم إلى الكلام المستكن وإلى الكلام البارز، فالكلام المستكن هو حركة النفس بقوتها المفكِّرة، متكوِّنة خلواً من تصويت ما، فمن هذه الجهة، ربما نكون صامتين فننطق عند ذواتنا قولًا كله، ونناظر في مناماتنا قوما ونخاطبهم .. والكلام البارز، حاوياً فعله في الصوت وفي المخاطبات، أعني الكلام البادي باللسان والفم، ولذلك يدعى كلاماً بارزاً، وهو رسول الفهم". 

قال الدكتور كمال اليازجي، في كتابه: يوحنا الدمشقي أرائه اللاهوتية ومسائل علم الكلام، ما نصّه: وأهم ما في هذا الشرح، في ما يعنينا، تمييزه بين الكلام المستكين والكلام البارز، إذ هو شبيه بما وصفه الأشاعرة في شرح أزلية الكلام الإلهي بـ "الحديث لانفسي" تمييزاً له عن الكلام المنطوق به والمسموع. 

قلت: ما قاله يوحنا الدمشقي هو عين اعتقاد الأشاعرة والماتريدية، الذين يزعمون أن كلام الله تعالى مجرد حديث نفس، ويسمونه: كلام نفسي. وأن الصوت والحرف مخلوقان من مخلوقاته، وليسا من صفاته، وأن كلام الله النفسي لا ينقطع، فهو دائماً يتكلم بكلامه النفسي، أزلًا وابداً. 

ويوحنا الدمشقي توفي سنة 132 للهجرة النبوية الشريفة، بينما أبو الحسن الاشعري توفي سنة 324 للهجرة، وتوفي أبو منصور الماتريدي سنة 333 للهجرة. وأما إمامهما في القول بابدعة الكلام النفسي، عبدالله بن سعيد بن كلّاب، فقد توفي سنة 240 للهجرة، وهذا يعني، أن الأشاعرة والماتريدية، إنما أخذوا بدعة الكلام النفسي، من فرضيَّات يوحنا الدمشقي النصراني، مما يؤكد العلاقة الوطيدة بين هذه الطوائف المنحرفة عن هدي القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولغة العرب، وبين النصرانيَّة، وهذا ليس بمستغرب، فإن بدعة التعطيل أساساً، إنما أخذها إمامهم الجعد بن درهم من فلاسفة النصارى، حيث كان الجعد بن درهم، يجتمع بهم في دمشق، ويأخذ عنهم الكلام والفلسفة. ومما لا ريب فيه، أن اليهود والنصارى، سبقوا المتكلمين إلى الأخذ بأراء فلاسفة الإغريق في الصفات الإلهية، وأنهم كانوا وسطاء بين المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وبين فلاسفة الإغريق، مما سهّل اتصال المعتزلة والأشاعرة والماتريدية بفلاسفة الإغريق، والأخذ عنهم مباشرة دون واسطة.

نقل فتوى للإمام أحمد والتعليق عليها

لما كان الإمام أحمد يقول بعدم التفرقة بين اللفظ والملفوظ، طرح بعض الإستدلالات ليثبت بذلك قوله. 

فقد قال عبدالله بن حنبل في السنة: سألت أبي رحمه الله قلت: ما تقول في رجل قال: التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق؟ وما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ فقال: هذا يجانب وهو قول المبتدع، وهذا كلام الجهمية ليس القرآن بمخلوق، قالت عائشة رضي الله عنها: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب} [آل عمران] فالقرآن ليس بمخلوق. 

قلت: ولا أعلم، ما هو الشاهد من الآية التي استدل بها الإمام على أن اللفظ والملفوظ واحد، لأني لا أجد في هذه الآية ما يشهد لصحة قوله! 

وقال عبدالله: سألت أبي رحمه الله قلت: إن قوما يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، فقال: هم جهمية وهم أشر ممن يقف، هذا قول جهم، وعظم الأمر عنده في هذا، وقال: هذا كلام جهم، وسألته عمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: قال الله عز وجل {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة] قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أبلغ كلام ربي". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس". 

قلت: فأما احتجاج الإمام بقول الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة]، فليس فيه ما يدل على بطلان من فرّق بين اللفظ والملفوظ، لأننا قلنا، بأن الكلام ينسب إلى قائله ابتداء، وإن كان المتكلم به غيره، فنعم، نحن نُسِمع كلام الله تعالى لغيرنا، ولكن نؤديه بكلامنا نحن، وكلامنا من أفعالنا، وأفعالنا مخلوقة. ويدل على ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد نفسه بعد ايراده لهذه الآية، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أبلِّغ كلام ربي"، فأخبر أن الكلام كلام الله، وأنه هو المبلِّغ عن الله تعالى، لا أن الله تعالى هو من يتكلم بنفسه على ألسنة خلقه، تعالى الله. 

وأما احتجاج الإمام أحمد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس". فهذا استدلال باطل، لأن النبي قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". فهل التسبيح والتكبير من كلام الله تعالى أم من كلام المخلوق؟! إنما مراد النبي صلى الله عليه وسلم بكلام الناس في هذا الحديث، ما يقع بينهم من أحاديث خارج الصلاة، وخارج العبادة، لا أن مراده أنه لا يصلح في الصلاة إلا كلام الله! 

إذاً تبيّن لنا أن جميع استدلالات الإمام أحمد لم تكن صحيحة، ولكن حسبنا أن الإمام أحمد نفسه رجع عن هذا القول، إلى الوقف والتفويض! 

وأما قول الإمام أحمد في الواقفية، وهم الذين يقولون: لا نقول في القرآن بأنه مخلوق ولا غير مخلوق، فواعجبي، لمَّا لم يعقل الواقفة في القرآن، هذه المسألة، واحتاروا فيها، ووقفوا، ولم يقولوا: بأن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، لم يرتض منهم الإمام أحمد هذا القول، بل حكم بأنهم شرٌّ من الجهمية! بينما ارتضى هو أن يكون واقفياً في مسألة اللفظ والملفوظ، مع أنه لا فرق بين من وقف في القرآن، ومن وقف في مسألة اللفظ والملفوظ. 

وهذا دليل على أنه يجب أن لا يؤخذ كلام العلماء وأراءهم على محمل الجدّ، حتى يكون الدليل معهم، وإلا فيبقى قولهم بلى قيمة علمية. 

انتهى والله أعلم وأحكم.

القول في مسألة القرآن

فإذا كان الله يتكلم بصوت يسمع، فإن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهذا إجماع أئمة أهل السنة والجماعة، لا يعرف لهم مخالف في ذلك، سوى المتكلمين من المعتزلة وورثتهم من الأشاعرة والماتريدية. 

قال عبدالله بن حنبل: سمعت أبي وسأله عبد الله بن عمر -المعروف بمشكدانه- عن القرآن؟ فقال: كلام الله عز وجل وليس بمخلوق. 

وقال: سمعت أبي رحمه الله، مرة أخرى سئل عن القرآن، فقال: كلام الله عز وجل ليس بمخلوق ولا تخاصموا ولا تجالسوا من يخاصم. 

وقال: حدثني أبو جعفر بن إشكاب، قال: سمعت أبي وهو الحسين بن إبراهيم بن إشكاب، ما لا أحصي يقول: القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر. 

وقال: حدثنا أبو الحسن بن العطار، قال: سمعت عاصم بن علي بن عاصم، يقول: القرآن كلام الله عز وجل. وأُراه قال: ليس بمخلوق. قال أبو الحسن: وسمعت هارون الفروي، يقول: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. 

وقال: حدثني أبو الحسن بن العطار، قال: سمعت عبد الوهاب بن الحكم الوراق، يقول: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق. 

وقال: حدبني أبو الحسن بن العطار، سمعت سفيان بن وكيع، يقول: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق. 

قلت: وكيع هو شيخ الإمام الشافعي. 

وقال الإمام البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: وقال بعض أهل العلم: إن الجهمية هم المشبهة، لأنهم شبهوا ربهم بالصنم، والأصم، والأبكم، الذي لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يخلق، وقالت الجهمية: وكذلك لا يتكلم، ولا يبصر نفسه، وقالوا: إن اسم الله مخلوق، ويلزمهم أن يقولوا إذا أذَّن المؤذِّن أن يقولوا: لا إله إلا الله الذي اسمه الله، وأشهد أن محمدا رسول الذي اسمه الله، لأنهم قالوا: إن اسم الله مخلوق، ولقد اختصم يهودي ومسلم إلى بعض معطليهم فقضى باليمين على المسلم، فقال اليهودي حلِّفه بالخالق لا بالمخلوق، فإن هذا في القرآن، وزعمت أن القرآن مخلوق، فحلفه بالخالق، فبهت الآخر، وقال: قوما حتى أنظر في أمركما، وخسر هنالك المبطلون. 

وقال البخاري: حدثنا الحسن بن صباح، حدثنا معبد أبو عبد الرحن الكوفي، نزل بغداد، حدثنا معاوية بن عمار، قال: سألت جعفر بن محمد عن القرآن فقال: ليس بخالق ولا مخلوق. 

وقال البخاري: وقال أبو عبد الله: احتج هؤلاء: يعني الجهمية بآيات، وليس فيما احتجوا به أشد التباسا من ثلاث آيات ، قوله: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان] ، فقالوا: إن قلتم: إن القرآن لا شيء كفرتم، وإن قلتم: إن القرآن شيء فهو داخل في الآية، والثانية قوله: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء]، قالوا: فأنتم قلتم بقول النصارى لأن المسيح كلمة الله، وهو خلق، فقلتم إن كلام الله ليس بمخلوق، وعيسى من كلام الله، والثالثةَ: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء]، وقلتم ليس بمحدث. قال أبو عبيدة: أما قوله: {وخلق كل شيء} [الفرقان]، فهو كما قال، وقال في آية أخرى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل]، فأخبر أن أول خلق خلقه بقوله، وأول خلق هو من الشيء الذي يقال: {وخلق كل شيء} [الفرقان]، فأخبر أن كلامه قبل الخلق، وأما تحريفهم: إنما المسيح عيسى بن مريم، فلو كان كما قالوا لكان ينبغي أن يكون بين الدفتين: وكلمته ألقاها إلى مريم لأن عيسى مذكر، والكلمة مؤنّثةَ لا اختلاف بين العرب في ذلك، وإنما خلق الله عيسى بالكلمة لا إنه الكلمة، ألا تسمع إلى قوله: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء]، يعني جبريل عليه السلام، كما قال في آية أخرى: {فأرسلنا إليها روحنا فتملَ لها بشرا سويا} [مريم]، وقال: {إن مثلَ عيسى عند الله كملَ آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران]، فخلق عيسى وآدم بقوله: كن وليس بين هاتين الآيتين خلاف، وأما تحريفهم: {من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء]، فإنما حدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما علمه الله ما لم يكن يعلم. 

وقال البخاري: وقال أبو عبد الله: والقرآن كلام الله غير مخلوق، لقول الله عز وجل: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيَثاَ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}، فبين أن الخلائق والطلب، والحثيَث، والمسخرات بأمره، ثم شرح، فقال: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف]، قال ابن عيينة: قد بين الله الخلق من الأمر بقوله: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف]، فالخلق بأمره كقوله: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم]، وكقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول لهكن فيكون} [يس]، وكقوله: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم]، ولم يقل بخلقه. 

قلت: فهذا إجماع منَّ أئمة السنة، لم يختلفوا عليه، كما اختلفوا في مسألة اللفظ، وسوف يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، فإذا اتّفق أئمة السنة على مسألة، لم يكن الحق ليكون في غيرها، إن شاء الله، وأنا أعلم، أن أئمة السنة بشر يصيبون ويخطئون، وإنما جئت من أقوالهم ما يؤيد الحق، ويثبته.

الرد على شبهة الجهمية الأشعرية في نفيهم أن يكون كلام الله بصوت وحرف.

الشبهة الأولى:

احتجاج الأشاعرة والماتريدية بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم السقيفة، عندما قال: "كنت زورّت كلاماً في نفسي". وهذا أيضا ليس بحجة، فهو زوّر الكلام الذي سوف يقوله في نفسه، ولم يقل تكلَّمت في نفسي بكلام، وإنما زوّر الكلام، أي: أعدّه ونظمه، ولكنه لا يكون كلاماً حتى ينطق به.

الشبهة الثانية:

زعم الأشاعرة والماتريدية أيضا أن الكلام يشمل الكتابة والإشارة، وهذا ادعاء بغير دليل، وهذا أيضا باطل، فالمكتوب هو الكلام المسموع، ولكن الكتابة ليست كلاما، بل هي كتابة، فما في الكتاب هو كلام من تكلم به بصوت مسموع، دُوِّن في الكتاب -أي: رُسِم- كي لا يضيع، وأما الإشارة فقد سبق الرد عليها فيما أخبرنا الله به عن مريم وزكريا عليهما السلام، فلو كانت الإشارة كلاما لما جاز لهما أن يشيرا إلى قومهما.

الشبهة الثالثة:

احتجاجهم ببيت الأخطل:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما.. جعل اللسان على الفؤاد دليلا.

وقد أجاد الأستاذ عثمان العمودي وأفاد في الرد على هذا البيت ونقض استدلال المتكلمين به، حيث قال: "إنَّ مورد الاستدلال بكلام العرب وأشعارِهم إنَّما هو في الألفاظ والتراكيب والأساليب، لا في الحقائق والمعاني. وبيانُ ذلك أنه لا يستقيمُ لأحدٍ أن يسمعَ قول الحماسي:

هل الحبُّ إلا زفرةٌ بعد زفرةٍ .. وحرٌّ على الأحشاء ليس له بردُ

فيقولَ في حدِّ الحب: (ما كان يزفر منه الإنسان مرةً بعد أخرى، ويلاقي في أحشائه الحرَّ منه)! وهل البيتُ إلا دعوى أطلقها عاشقٌ آخرَ الليل! فإنَّ الشعراء والأدباء لا تؤخذ منهم الحقائق والمعاني، ولا يُرجَع إليهم في الحدود والتقاسيم، ولا يصحُّ لنا أن نستجلب المعاني التي ترنَّم بها عنترةُ في عبلة، أو سوَّدها كثيِّرُ في عزَّة، أو أرسلها ذو الرمَّة إلى ميَّة؛ ثم نقرِّر بها مسألةً من أصول مسائل الاعتقاد. ومحلُّ الاحتجاج بشعرِهم إنَّما هو فيما انفردوا فيه من الفصاحة والبلاغة والعلم باللغة وألفاظها واستعمالاتها. لا في المعاني التي ربَّما فاقَهم في الإتيان على أحسنِها بعضُ المتأخرين. ولو اطَّرد المستدلُّون بهذا البيتِ لجعلوا مصعبَ بن الزبير اسماً لنيزكٍ محترقٍ على الحقيقة! أليس يقول ابنُ قيس الرقيَّات:

إنَّما مصعَبٌ شهابٌ من اللهِ .. تجلَّت عن وجهِه الظلماءُ!

وللَزِم بذلك أن يكون النعمانُ اسماً للشمسِ التي تدورُ عليها الأفلاك، كما قال النابغة (فإنَّك شمسٌ والملوك كواكبٌ)، ولكان إطلاقُ الرسول حقيقةً يصدُق على النورِ الذي قال فيه كعبُ بن زهير (إنَّ الرسول لنورٌ يُستضاء به)، وإذا نزل إلى شعر المتأخرين فسيجعل النسيانَ علةَ تسميةِ الإنسان أخذاً من قول أبي تمام (سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسي)، أو يجعل المتكلِّم بالحبِّ كاذباً، فإنَّ (الحب ما منع الكلامَ الألسنا) كما يقرِّر أبو الطيِّب، وليس لهم أن يقولوا: “إن هذه الأبيات تفترق عن ذلك، فإنَّها جاءت على ما تعرفه العربُ من المدح والاستعارة وجودة التشبيه”. إذ إننا سنقول في بيت الأخطل ما قالوه، وأنَّه جارٍ على مذهبِ العربِ في التلطُّف وحُسن التعليل" انتهى كلامه.

الشبهة الرابعة:

يزعم الجهمية من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، أن الصوت لا يمكن أن يحدث إلا باصطكاك الأجرام! وطبعاً هذا قياس عقلي فهم لما رأوا في زمانهم أن الأصوات لا تكون إلا باصطكاك الأجرام زعموا ذلك، فكان جواب أهل السنة "السلف": أنه لا يلزم من صدور الصوت أن تصطك الأجرام ولا يعني أننا لا نرى ولا نشاهد الصوت يصدر إلا من اصطكاك الأجرام أن الصوت لا يصدر إلّا كذلك.

ومع تقدم العلم وخروج المذياع والتلفاز والتلفون والجوال بان بعد نظر أهل السنة "السلفيون" ورجاحة عقولهم وتبيّن قصر نظر المتكلمين وسخافة عقولهم.

وكذلك دلّت الأدلة الشرعية على أنه قد يصدر الصوت من الأشياء بدون اصطكاك أجرام، كما ورد في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم واللفظ له، ورواه الترمذي، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن". 

فدلّ هذا الحديث على أن الصوت قد يصدر من المخلوقات وإن لم يكن هناك اصطكاك أجرام، فالحجر الذي كان يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم، كان يتكلَّم بلا فم ولا لسان ولا أسنان ولا لهاة ولا حلق، وبلا اصطكاك للأجرام.

الشبهة الخامسة:

يزعم الجهمية من المعتزلة والأشعرية والماتريدية أن الحصى والكواكب والسماوات والأرض تسبِّح والتسبيح كلام ومع ذلك لا نسمع لها صوتاً فدل هذا على أن من الكلام ما لا يكون صوتا.

والجواب على ذلك من وجهين:

الأول: من قال بأن التسبيح يلزم منه أن يكون كلاما، ويجب أن يصدر منه صوت، فمن التسبيح ما يكون بين العبد ونفسه، فيسبح الله في نفسه "حديث نفس" وقد قال الله تعالى "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" فمن الذكر ما يكون في النفس وليس كلاما.

والثاني: من قال بأن الحجر والشجر والنجوم والكواكب والسماوات والأرض لا تصدر صوتا عند تسبيحها! فقد تسبّح هذه الكائنات بصوت ولكن لا نسمعه، بمعنى أن الله تعالى حجب عنّا سماع أصواتها كما حجب عنّا سماع صوته وسماع أصوات الملائكة وسماع أصوات الجن وسماع أصوات البعيدين عنّا.

والدليل على ذلك أنه ورد في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الصحابة صوت تسبيح الحصى، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كنت أتبع خلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت يوما، فإذا هو قد خرج فاتّبعته فجلس في موضع فجلست عنده فجاء أبو بكر فسلَّم وجلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمر فجلس، عن يمين أبي بكر، ثم جاء عثمان فجلس يمين عمر، قال: فتناول النبي صلى الله عليه وسلم حُصيَّات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم وضعهن في يد أبي بكر فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن.

رواه البزار في مسنده.

ووكان يسمعهم تسبيح الطعام وهو يؤكل، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ولقد كُنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل".

رواه البخاري.

فيكشف الله تبارك وتعالى الحُجُب عن أسماع الصحابة بمقدارٍ  يسمعون فيه صوت تسبيح الحصى والطعام، ثم يحجبه متى شاء.

قلت: وسلام الحجر على النبي بصوت، وتسبيح الطعام والحصى والكواكب والسماوات والأرض، تشير إلى أن هذه الكائنات وإن بدت لنا جمادات خرساء إلا أنها في الحقيقة أحياء عاقلة ناطقة، ولكن حياتها لا ندركها، فحياتها بينها وبين ربها، وإنما هي بالنسبة لنا جمادات.

الشبهة السادسة:

احتجاج كهنة الاشاعرة والماتريدية على ان حديث النفس كلام بقوله تعالى ﴿قَالُوۤا۟ إِن یَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أخ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا یُوسُفُ فِی نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ یُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرّ مَّكَاناۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف]

فيوسف قال في نفسه أنتم شر مكانا .. والقول كلام!

والجواب: أن القول أعم من الكلام والكلام أخص، فالكلام لايكون إلا منطوقا ملفوظا بصوت وحرف.

فمعنى القول: أي: الانتقال من حال إلى حال.

كما تقول العرب: قالت السماء فأمطرت، أي: انتقلت من حال إمساك المطر، إلى الإمطار. وكما تقول العرب: قال الجدار فوقع. أي: انتقل من حال الوقوف والاعتدال، إلى حال السقوط.

فمحدث نفسه قائل، لأنه انتقل من حال عدم حديث النفس إلى حال محادثة النفس. فحديث النفس قول، ولكنه ليس كلاما.

تنبيه: اللغة سواء كانت عربية أو أعجمية، هي الأصوات التي يصدرها المتكلِّم عندما يتكلم، والكلام فعل، وفعل العبد مخلوق، لأن الآلة التي يستخدمها العبد للفعل مخلوقة، وأما فعل الله فغير مخلوق، لأنه خالق وليس بمخلوق، وعلى هذا فأي لغة يتكلم الله بها فهي غير مخلوقة، لأنها من فعله سبحانه، وأي لغة يتكلم بها العبد مخلوقة، لأنها من فعل العبد.

وأما الشيء الذي لا يتكلم بصوت وليس بأخرس، كما يقول المتكلمون، فهذه صفة العدم، فإن العدم لا يتكلم وليس بأخرس أيضاً.