الشبهة الأولى:
احتجاج الأشاعرة والماتريدية بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم السقيفة، عندما قال: "كنت زورّت كلاماً في نفسي". وهذا أيضا ليس بحجة، فهو زوّر الكلام الذي سوف يقوله في نفسه، ولم يقل تكلَّمت في نفسي بكلام، وإنما زوّر الكلام، أي: أعدّه ونظمه، ولكنه لا يكون كلاماً حتى ينطق به.
الشبهة الثانية:
زعم الأشاعرة والماتريدية أيضا أن الكلام يشمل الكتابة والإشارة، وهذا ادعاء بغير دليل، وهذا أيضا باطل، فالمكتوب هو الكلام المسموع، ولكن الكتابة ليست كلاما، بل هي كتابة، فما في الكتاب هو كلام من تكلم به بصوت مسموع، دُوِّن في الكتاب -أي: رُسِم- كي لا يضيع، وأما الإشارة فقد سبق الرد عليها فيما أخبرنا الله به عن مريم وزكريا عليهما السلام، فلو كانت الإشارة كلاما لما جاز لهما أن يشيرا إلى قومهما.
الشبهة الثالثة:
احتجاجهم ببيت الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما.. جعل اللسان على الفؤاد دليلا.
وقد أجاد الأستاذ عثمان العمودي وأفاد في الرد على هذا البيت ونقض استدلال المتكلمين به، حيث قال: "إنَّ مورد الاستدلال بكلام العرب وأشعارِهم إنَّما هو في الألفاظ والتراكيب والأساليب، لا في الحقائق والمعاني. وبيانُ ذلك أنه لا يستقيمُ لأحدٍ أن يسمعَ قول الحماسي:
هل الحبُّ إلا زفرةٌ بعد زفرةٍ .. وحرٌّ على الأحشاء ليس له بردُ
فيقولَ في حدِّ الحب: (ما كان يزفر منه الإنسان مرةً بعد أخرى، ويلاقي في أحشائه الحرَّ منه)! وهل البيتُ إلا دعوى أطلقها عاشقٌ آخرَ الليل! فإنَّ الشعراء والأدباء لا تؤخذ منهم الحقائق والمعاني، ولا يُرجَع إليهم في الحدود والتقاسيم، ولا يصحُّ لنا أن نستجلب المعاني التي ترنَّم بها عنترةُ في عبلة، أو سوَّدها كثيِّرُ في عزَّة، أو أرسلها ذو الرمَّة إلى ميَّة؛ ثم نقرِّر بها مسألةً من أصول مسائل الاعتقاد. ومحلُّ الاحتجاج بشعرِهم إنَّما هو فيما انفردوا فيه من الفصاحة والبلاغة والعلم باللغة وألفاظها واستعمالاتها. لا في المعاني التي ربَّما فاقَهم في الإتيان على أحسنِها بعضُ المتأخرين. ولو اطَّرد المستدلُّون بهذا البيتِ لجعلوا مصعبَ بن الزبير اسماً لنيزكٍ محترقٍ على الحقيقة! أليس يقول ابنُ قيس الرقيَّات:
إنَّما مصعَبٌ شهابٌ من اللهِ .. تجلَّت عن وجهِه الظلماءُ!
وللَزِم بذلك أن يكون النعمانُ اسماً للشمسِ التي تدورُ عليها الأفلاك، كما قال النابغة (فإنَّك شمسٌ والملوك كواكبٌ)، ولكان إطلاقُ الرسول حقيقةً يصدُق على النورِ الذي قال فيه كعبُ بن زهير (إنَّ الرسول لنورٌ يُستضاء به)، وإذا نزل إلى شعر المتأخرين فسيجعل النسيانَ علةَ تسميةِ الإنسان أخذاً من قول أبي تمام (سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسي)، أو يجعل المتكلِّم بالحبِّ كاذباً، فإنَّ (الحب ما منع الكلامَ الألسنا) كما يقرِّر أبو الطيِّب، وليس لهم أن يقولوا: “إن هذه الأبيات تفترق عن ذلك، فإنَّها جاءت على ما تعرفه العربُ من المدح والاستعارة وجودة التشبيه”. إذ إننا سنقول في بيت الأخطل ما قالوه، وأنَّه جارٍ على مذهبِ العربِ في التلطُّف وحُسن التعليل" انتهى كلامه.
الشبهة الرابعة:
يزعم الجهمية من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، أن الصوت لا يمكن أن يحدث إلا باصطكاك الأجرام! وطبعاً هذا قياس عقلي فهم لما رأوا في زمانهم أن الأصوات لا تكون إلا باصطكاك الأجرام زعموا ذلك، فكان جواب أهل السنة "السلف": أنه لا يلزم من صدور الصوت أن تصطك الأجرام ولا يعني أننا لا نرى ولا نشاهد الصوت يصدر إلا من اصطكاك الأجرام أن الصوت لا يصدر إلّا كذلك.
ومع تقدم العلم وخروج المذياع والتلفاز والتلفون والجوال بان بعد نظر أهل السنة "السلفيون" ورجاحة عقولهم وتبيّن قصر نظر المتكلمين وسخافة عقولهم.
وكذلك دلّت الأدلة الشرعية على أنه قد يصدر الصوت من الأشياء بدون اصطكاك أجرام، كما ورد في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم واللفظ له، ورواه الترمذي، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن".
فدلّ هذا الحديث على أن الصوت قد يصدر من المخلوقات وإن لم يكن هناك اصطكاك أجرام، فالحجر الذي كان يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم، كان يتكلَّم بلا فم ولا لسان ولا أسنان ولا لهاة ولا حلق، وبلا اصطكاك للأجرام.
الشبهة الخامسة:
يزعم الجهمية من المعتزلة والأشعرية والماتريدية أن الحصى والكواكب والسماوات والأرض تسبِّح والتسبيح كلام ومع ذلك لا نسمع لها صوتاً فدل هذا على أن من الكلام ما لا يكون صوتا.
والجواب على ذلك من وجهين:
الأول: من قال بأن التسبيح يلزم منه أن يكون كلاما، ويجب أن يصدر منه صوت، فمن التسبيح ما يكون بين العبد ونفسه، فيسبح الله في نفسه "حديث نفس" وقد قال الله تعالى "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" فمن الذكر ما يكون في النفس وليس كلاما.
والثاني: من قال بأن الحجر والشجر والنجوم والكواكب والسماوات والأرض لا تصدر صوتا عند تسبيحها! فقد تسبّح هذه الكائنات بصوت ولكن لا نسمعه، بمعنى أن الله تعالى حجب عنّا سماع أصواتها كما حجب عنّا سماع صوته وسماع أصوات الملائكة وسماع أصوات الجن وسماع أصوات البعيدين عنّا.
والدليل على ذلك أنه ورد في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الصحابة صوت تسبيح الحصى، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كنت أتبع خلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت يوما، فإذا هو قد خرج فاتّبعته فجلس في موضع فجلست عنده فجاء أبو بكر فسلَّم وجلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمر فجلس، عن يمين أبي بكر، ثم جاء عثمان فجلس يمين عمر، قال: فتناول النبي صلى الله عليه وسلم حُصيَّات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم وضعهن في يد أبي بكر فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن.
رواه البزار في مسنده.
ووكان يسمعهم تسبيح الطعام وهو يؤكل، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ولقد كُنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل".
رواه البخاري.
فيكشف الله تبارك وتعالى الحُجُب عن أسماع الصحابة بمقدارٍ يسمعون فيه صوت تسبيح الحصى والطعام، ثم يحجبه متى شاء.
قلت: وسلام الحجر على النبي بصوت، وتسبيح الطعام والحصى والكواكب والسماوات والأرض، تشير إلى أن هذه الكائنات وإن بدت لنا جمادات خرساء إلا أنها في الحقيقة أحياء عاقلة ناطقة، ولكن حياتها لا ندركها، فحياتها بينها وبين ربها، وإنما هي بالنسبة لنا جمادات.
الشبهة السادسة:
احتجاج كهنة الاشاعرة والماتريدية على ان حديث النفس كلام بقوله تعالى ﴿قَالُوۤا۟ إِن یَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أخ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا یُوسُفُ فِی نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ یُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرّ مَّكَاناۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف]
فيوسف قال في نفسه أنتم شر مكانا .. والقول كلام!
والجواب: أن القول أعم من الكلام والكلام أخص، فالكلام لايكون إلا منطوقا ملفوظا بصوت وحرف.
فمعنى القول: أي: الانتقال من حال إلى حال.
كما تقول العرب: قالت السماء فأمطرت، أي: انتقلت من حال إمساك المطر، إلى الإمطار. وكما تقول العرب: قال الجدار فوقع. أي: انتقل من حال الوقوف والاعتدال، إلى حال السقوط.
فمحدث نفسه قائل، لأنه انتقل من حال عدم حديث النفس إلى حال محادثة النفس. فحديث النفس قول، ولكنه ليس كلاما.
تنبيه: اللغة سواء كانت عربية أو أعجمية، هي الأصوات التي يصدرها المتكلِّم عندما يتكلم، والكلام فعل، وفعل العبد مخلوق، لأن الآلة التي يستخدمها العبد للفعل مخلوقة، وأما فعل الله فغير مخلوق، لأنه خالق وليس بمخلوق، وعلى هذا فأي لغة يتكلم الله بها فهي غير مخلوقة، لأنها من فعله سبحانه، وأي لغة يتكلم بها العبد مخلوقة، لأنها من فعل العبد.
وأما الشيء الذي لا يتكلم بصوت وليس بأخرس، كما يقول المتكلمون، فهذه صفة العدم، فإن العدم لا يتكلم وليس بأخرس أيضاً.