لما كان الإمام أحمد يقول بعدم التفرقة بين اللفظ والملفوظ، طرح بعض الإستدلالات ليثبت بذلك قوله.
فقد قال عبدالله بن حنبل في السنة: سألت أبي رحمه الله قلت: ما تقول في رجل قال: التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق؟ وما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ فقال: هذا يجانب وهو قول المبتدع، وهذا كلام الجهمية ليس القرآن بمخلوق، قالت عائشة رضي الله عنها: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب} [آل عمران] فالقرآن ليس بمخلوق.
قلت: ولا أعلم، ما هو الشاهد من الآية التي استدل بها الإمام على أن اللفظ والملفوظ واحد، لأني لا أجد في هذه الآية ما يشهد لصحة قوله!
وقال عبدالله: سألت أبي رحمه الله قلت: إن قوما يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، فقال: هم جهمية وهم أشر ممن يقف، هذا قول جهم، وعظم الأمر عنده في هذا، وقال: هذا كلام جهم، وسألته عمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: قال الله عز وجل {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة] قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أبلغ كلام ربي". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس".
قلت: فأما احتجاج الإمام بقول الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة]، فليس فيه ما يدل على بطلان من فرّق بين اللفظ والملفوظ، لأننا قلنا، بأن الكلام ينسب إلى قائله ابتداء، وإن كان المتكلم به غيره، فنعم، نحن نُسِمع كلام الله تعالى لغيرنا، ولكن نؤديه بكلامنا نحن، وكلامنا من أفعالنا، وأفعالنا مخلوقة. ويدل على ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد نفسه بعد ايراده لهذه الآية، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أبلِّغ كلام ربي"، فأخبر أن الكلام كلام الله، وأنه هو المبلِّغ عن الله تعالى، لا أن الله تعالى هو من يتكلم بنفسه على ألسنة خلقه، تعالى الله.
وأما احتجاج الإمام أحمد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس". فهذا استدلال باطل، لأن النبي قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". فهل التسبيح والتكبير من كلام الله تعالى أم من كلام المخلوق؟! إنما مراد النبي صلى الله عليه وسلم بكلام الناس في هذا الحديث، ما يقع بينهم من أحاديث خارج الصلاة، وخارج العبادة، لا أن مراده أنه لا يصلح في الصلاة إلا كلام الله!
إذاً تبيّن لنا أن جميع استدلالات الإمام أحمد لم تكن صحيحة، ولكن حسبنا أن الإمام أحمد نفسه رجع عن هذا القول، إلى الوقف والتفويض!
وأما قول الإمام أحمد في الواقفية، وهم الذين يقولون: لا نقول في القرآن بأنه مخلوق ولا غير مخلوق، فواعجبي، لمَّا لم يعقل الواقفة في القرآن، هذه المسألة، واحتاروا فيها، ووقفوا، ولم يقولوا: بأن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، لم يرتض منهم الإمام أحمد هذا القول، بل حكم بأنهم شرٌّ من الجهمية! بينما ارتضى هو أن يكون واقفياً في مسألة اللفظ والملفوظ، مع أنه لا فرق بين من وقف في القرآن، ومن وقف في مسألة اللفظ والملفوظ.
وهذا دليل على أنه يجب أن لا يؤخذ كلام العلماء وأراءهم على محمل الجدّ، حتى يكون الدليل معهم، وإلا فيبقى قولهم بلى قيمة علمية.
انتهى والله أعلم وأحكم.