قال يوحنا الدمشقي النصراني: "هذا الإله وحده ليس هو خائباً من كلمة، فله كلمة ليست خائبة من قنوم، ليست مبتدئة الوجود ولا منتهية، لأن الإله ما كان في وقت من الأوقات خائباً من كلمة .. مولودة منه دائماً".
وقال: "وليست كلمته مثل حكمتنا خائبة من قنوم، ومتدفقة في الهواء، لكن كلمته ذات قنوم حيّ كامل ليس متميزاً منه، لكنه موجود فيهى دائماً، لأنه إذا كانت كلمته خارجاً منه فأين تكون؟ ولَعَمْري إن طبيعتنا إذ هي بالية سريعة الانحلال، لذلك توجد كلمتنا خائبة من قنوم".
وقال: "وينبغي أن نعلم أن حركة عقلنا الأولى، تدعى فهماً، والفطنة بشيء من الأشياء تدعى هَِّمة، فهذه إذا ثبتت ورسمت في أنفسنا قِيماً قد فطنت به تسمى رويّة، والروية إذا ثبتت في بحث واحد بعينه، وميَّزت ذاتها، وتصفحتها، تسمى بصيرة، والبصيرة إذا اتسعت، فمن شأنها أن تولِّد الافتكار المسمى قولًا مستكيناً .. ومنه يبرز .. الكلام البارز منطوقاً به باللسان .. ".
وقال: "والقوة الناطقة من النفس أيضاً، تنقسم إلى الكلام المستكن وإلى الكلام البارز، فالكلام المستكن هو حركة النفس بقوتها المفكِّرة، متكوِّنة خلواً من تصويت ما، فمن هذه الجهة، ربما نكون صامتين فننطق عند ذواتنا قولًا كله، ونناظر في مناماتنا قوما ونخاطبهم .. والكلام البارز، حاوياً فعله في الصوت وفي المخاطبات، أعني الكلام البادي باللسان والفم، ولذلك يدعى كلاماً بارزاً، وهو رسول الفهم".
قال الدكتور كمال اليازجي، في كتابه: يوحنا الدمشقي أرائه اللاهوتية ومسائل علم الكلام، ما نصّه: وأهم ما في هذا الشرح، في ما يعنينا، تمييزه بين الكلام المستكين والكلام البارز، إذ هو شبيه بما وصفه الأشاعرة في شرح أزلية الكلام الإلهي بـ "الحديث لانفسي" تمييزاً له عن الكلام المنطوق به والمسموع.
قلت: ما قاله يوحنا الدمشقي هو عين اعتقاد الأشاعرة والماتريدية، الذين يزعمون أن كلام الله تعالى مجرد حديث نفس، ويسمونه: كلام نفسي. وأن الصوت والحرف مخلوقان من مخلوقاته، وليسا من صفاته، وأن كلام الله النفسي لا ينقطع، فهو دائماً يتكلم بكلامه النفسي، أزلًا وابداً.
ويوحنا الدمشقي توفي سنة 132 للهجرة النبوية الشريفة، بينما أبو الحسن الاشعري توفي سنة 324 للهجرة، وتوفي أبو منصور الماتريدي سنة 333 للهجرة. وأما إمامهما في القول بابدعة الكلام النفسي، عبدالله بن سعيد بن كلّاب، فقد توفي سنة 240 للهجرة، وهذا يعني، أن الأشاعرة والماتريدية، إنما أخذوا بدعة الكلام النفسي، من فرضيَّات يوحنا الدمشقي النصراني، مما يؤكد العلاقة الوطيدة بين هذه الطوائف المنحرفة عن هدي القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولغة العرب، وبين النصرانيَّة، وهذا ليس بمستغرب، فإن بدعة التعطيل أساساً، إنما أخذها إمامهم الجعد بن درهم من فلاسفة النصارى، حيث كان الجعد بن درهم، يجتمع بهم في دمشق، ويأخذ عنهم الكلام والفلسفة. ومما لا ريب فيه، أن اليهود والنصارى، سبقوا المتكلمين إلى الأخذ بأراء فلاسفة الإغريق في الصفات الإلهية، وأنهم كانوا وسطاء بين المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وبين فلاسفة الإغريق، مما سهّل اتصال المعتزلة والأشاعرة والماتريدية بفلاسفة الإغريق، والأخذ عنهم مباشرة دون واسطة.