فإذا كان الله يتكلم بصوت يسمع، فإن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهذا إجماع أئمة أهل السنة والجماعة، لا يعرف لهم مخالف في ذلك، سوى المتكلمين من المعتزلة وورثتهم من الأشاعرة والماتريدية.
قال عبدالله بن حنبل: سمعت أبي وسأله عبد الله بن عمر -المعروف بمشكدانه- عن القرآن؟ فقال: كلام الله عز وجل وليس بمخلوق.
وقال: سمعت أبي رحمه الله، مرة أخرى سئل عن القرآن، فقال: كلام الله عز وجل ليس بمخلوق ولا تخاصموا ولا تجالسوا من يخاصم.
وقال: حدثني أبو جعفر بن إشكاب، قال: سمعت أبي وهو الحسين بن إبراهيم بن إشكاب، ما لا أحصي يقول: القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر.
وقال: حدثنا أبو الحسن بن العطار، قال: سمعت عاصم بن علي بن عاصم، يقول: القرآن كلام الله عز وجل. وأُراه قال: ليس بمخلوق. قال أبو الحسن: وسمعت هارون الفروي، يقول: القرآن كلام الله وليس بمخلوق.
وقال: حدثني أبو الحسن بن العطار، قال: سمعت عبد الوهاب بن الحكم الوراق، يقول: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق.
وقال: حدبني أبو الحسن بن العطار، سمعت سفيان بن وكيع، يقول: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق.
قلت: وكيع هو شيخ الإمام الشافعي.
وقال الإمام البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: وقال بعض أهل العلم: إن الجهمية هم المشبهة، لأنهم شبهوا ربهم بالصنم، والأصم، والأبكم، الذي لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يخلق، وقالت الجهمية: وكذلك لا يتكلم، ولا يبصر نفسه، وقالوا: إن اسم الله مخلوق، ويلزمهم أن يقولوا إذا أذَّن المؤذِّن أن يقولوا: لا إله إلا الله الذي اسمه الله، وأشهد أن محمدا رسول الذي اسمه الله، لأنهم قالوا: إن اسم الله مخلوق، ولقد اختصم يهودي ومسلم إلى بعض معطليهم فقضى باليمين على المسلم، فقال اليهودي حلِّفه بالخالق لا بالمخلوق، فإن هذا في القرآن، وزعمت أن القرآن مخلوق، فحلفه بالخالق، فبهت الآخر، وقال: قوما حتى أنظر في أمركما، وخسر هنالك المبطلون.
وقال البخاري: حدثنا الحسن بن صباح، حدثنا معبد أبو عبد الرحن الكوفي، نزل بغداد، حدثنا معاوية بن عمار، قال: سألت جعفر بن محمد عن القرآن فقال: ليس بخالق ولا مخلوق.
وقال البخاري: وقال أبو عبد الله: احتج هؤلاء: يعني الجهمية بآيات، وليس فيما احتجوا به أشد التباسا من ثلاث آيات ، قوله: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان] ، فقالوا: إن قلتم: إن القرآن لا شيء كفرتم، وإن قلتم: إن القرآن شيء فهو داخل في الآية، والثانية قوله: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء]، قالوا: فأنتم قلتم بقول النصارى لأن المسيح كلمة الله، وهو خلق، فقلتم إن كلام الله ليس بمخلوق، وعيسى من كلام الله، والثالثةَ: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء]، وقلتم ليس بمحدث. قال أبو عبيدة: أما قوله: {وخلق كل شيء} [الفرقان]، فهو كما قال، وقال في آية أخرى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل]، فأخبر أن أول خلق خلقه بقوله، وأول خلق هو من الشيء الذي يقال: {وخلق كل شيء} [الفرقان]، فأخبر أن كلامه قبل الخلق، وأما تحريفهم: إنما المسيح عيسى بن مريم، فلو كان كما قالوا لكان ينبغي أن يكون بين الدفتين: وكلمته ألقاها إلى مريم لأن عيسى مذكر، والكلمة مؤنّثةَ لا اختلاف بين العرب في ذلك، وإنما خلق الله عيسى بالكلمة لا إنه الكلمة، ألا تسمع إلى قوله: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء]، يعني جبريل عليه السلام، كما قال في آية أخرى: {فأرسلنا إليها روحنا فتملَ لها بشرا سويا} [مريم]، وقال: {إن مثلَ عيسى عند الله كملَ آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران]، فخلق عيسى وآدم بقوله: كن وليس بين هاتين الآيتين خلاف، وأما تحريفهم: {من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء]، فإنما حدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما علمه الله ما لم يكن يعلم.
وقال البخاري: وقال أبو عبد الله: والقرآن كلام الله غير مخلوق، لقول الله عز وجل: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيَثاَ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}، فبين أن الخلائق والطلب، والحثيَث، والمسخرات بأمره، ثم شرح، فقال: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف]، قال ابن عيينة: قد بين الله الخلق من الأمر بقوله: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف]، فالخلق بأمره كقوله: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم]، وكقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول لهكن فيكون} [يس]، وكقوله: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم]، ولم يقل بخلقه.
قلت: فهذا إجماع منَّ أئمة السنة، لم يختلفوا عليه، كما اختلفوا في مسألة اللفظ، وسوف يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، فإذا اتّفق أئمة السنة على مسألة، لم يكن الحق ليكون في غيرها، إن شاء الله، وأنا أعلم، أن أئمة السنة بشر يصيبون ويخطئون، وإنما جئت من أقوالهم ما يؤيد الحق، ويثبته.