الرد على بعض حجج من زعم نفي الشبه بين صفات الله وصفات خلقه

رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين، فيها نفي للشبه والمثل في سياق واحد، في دلالة واضحة، على نفي الشبه بين صفات الله تعالى وصفات خلقه من جميع الوجوه، وقد احتجّ بها من ينكر وجود أيّ شبه بين صفات الله وصفات خلقه.

وقد نبّهت في كتابي الصفات، في باب وقوع الشبه بين صفات الله وصفات خلقه، أنه لم يثبت خبر في نفي الشبه مع المثْل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من الصحابة أو التابعين فجميعها باطلة، من جهة الإسناد، فلا حجّة فيها لمحتجّ البتّة، وهنا تفصيل ذلك.

فمما روي في ذلك: 

ما وراه الطبري في تفسير قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} يقول: هل تعلم للربّ مثلا أو شبيها. اهـ

قلت: وهذا أثر ضعيف الإسناد، علي، هو علي بن أبي طلحة، قيل عنه: "له أشياء منكرات، وضعيف الحديث، ومنكر، وليس بمحمود المذهب".

ومعاوية، هو معاوية بن صالح، كان يحيى بن سعيد لا يرضاه، وقال الرازي: لا يحتج به. وقال الأزدي: ضعيف. وله أحاديث صالحة، وهو صدوق إلا أنه يقع في أحاديثه إفرادات.

 وقال الطبري: حدثني سعيد بن عثمان التنوخي، قال: ثنا إبراهيم بن مهدي، عن عباد بن عوام، عن شعبة، عن الحسن بن عمارة، عن رجل، عن ابن عباس، في قوله {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال: شبيها. اهـ

قلت: ومع أن هذا الأثر، لم يصرّح فيه بنفي المثل مع نفي الشبه، لنقول بانه نفى لشبه من جميع الوجوه، إلا أننا لو افترضنا أن هذا هو المراد بالنصّ، فإن الحسن بن عمارة، كان ضعيفا، واتهمه بعضهم بوضع الحديث، وقال عنه أخرون: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه، ومتروك.

ثم الحسن يرويه عن رجل مجهول.

 وقال الطبري: حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن مجاهد في هذه الآية {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} قال: هل تعلم له شبيها، هل تعلم له مثلا تبارك وتعالى. اهـ

قلت: قال أهل العلم: مرويات الأعمش عن مجاهد أكثرها أباطيل، وكان يدلسها عن مجاهد، قيل أنه لم يروي عن مجاهد شيء، وقيل سمع منه أحاديث قليلة.

ويحيى بن إبراهيم صدوق، وأبوه وأبوه وجده لا يعرفون.

وقال الترمذي في جامعه: حدثنا أحمد بن منيع قال: حدثنا أبو سعد هو الصغاني، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص] فالصمد: الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله عز وجل لا يموت ولا يورث: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] قال: "لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء".

قلت: وحديث أبي بن كعب، حسن دون قوله: "فالصمد: الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله عز وجل لا يموت ولا يورث: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] قال: لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء".

وفي إسناد هذا الخبر، أبو سعد الصاغاني، قال ابن عدي، عن يحيى بن معين، عن الصاغاني: وكان جهميا وليس هو بشيْء كان شيطانا من الشياطين.

وقال أخرى: ضعيف.

وقال البخاري: فيه اضطراب.

وقال النسائي: متروك الحديث.

قال ابن عدي: "حدّثنا الْحسن بْن سفْيان، حدّثنا أحْمد بْن منيع، وأبو كامل، قالا: حدّثنا محمد بْن ميسر أبو سعد، حدّثنا أبْو جعْفر الرّازيّ عن الرّبيع، عن أبي الْعالية، عن أبي، قال: قال الْمشْركون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم انْسبْ لنا ربّك فأنْزل اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ}، فالصّمد الّذي لمْ يلدْ ولمْ يولدْ، لأنّه ليْس شيْء يولد إلاّ سيموت وليْس شيْء يموت إلاّ سيورّث واللّه لا يموت ولا يورّث ولمْ يكن له كفوا أحد. قال: "لمْ يكنْ له شبيه، ولا عدْل وليْس كمثْله شيْء".

قال الشيخ: وهذا لم يروه، عن أبي جعْفر بهذا الإسْناد غير أبي سعد هذا.

قلت: ومما يدل على أن هذه الزيادة من وضع أبي سعد الصاغاني، أن هذا الحديث روي عن عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وجابر بن عبدالله، وعبدالله بن سلّام. ومن التابعين: شقيق بن عبدالله، وسعيد بن جبير، والضحاك بن مزاحم، وعكرمة مولى ابن عباس، وقتادة بن دعامة، بل روي عن أبي العالية مرسلا، دون هذه الزيادة، الواردة في حديث أبي سعد الجهميّ.

وأما معنى السميّ في الآية الكريمة، فالسميّ من المساماة، والمساماة في لغة العرب، هي المماثلة، وليست المشابهة، تقول العرب: فلان سميّ فلان، أي: مثيله وعدله.

السّميّ : الـمُسامي، وهو المطاول والمفاخر.

وسميّ الشيء: موافقه في اسمه، أو نظيره.

وقال ابن فارس، عن النظير: "وهذا نظير هذا، من هذا القياس؛ أي إنّه إذا نظر إليه وإلى نظيره كانا سواء". 

والنظير: المثْل في كل شيْء.

وورد في بعض المعاجم المؤلفة مؤخرا أنه يطلق على الشبيه نظير، وهو خطأ.

إذا: السمي والمثيل والندّ والنظير، معان مترادفة.

فلا يقال بحال، أن معنى السميّ، هو الشبيه!

وأما ما أثر عن بعض أئمة السنّة، إنكاره للشبه، وتكفيره للمشبّهة، فإنما مرادهم بذلك، الممثّلة، لأنه في لغة العرب، كل مثيل شبيه، وليس كل شبيه مثيل، فالشبه أعمّ، والمثْل أخصّ، يصح في اللغة ان يقال عن المثيل شبيه، ولا يصح أن يقال عن الشبيه مثيل، فكل مثيل شبيه، وليس كل شبيه مثيل، والدليل على ذلك، أنهم أثبتوا الشبه بين صفات الخالق وصفات المخلوق في الكثير من آثارهم، حتى في صفة الصورة، فمن لم يهده الله تعالى، يقرأ قولهم في نفي الشبه، فيظنهم ينفون الشبه من جميع الوجوه، وهذا باطل، فتجد أمثال هؤلاء محتار بين إثبات السلف للشبه وبين نفيهم للشبه، ولا يهتدي للحق من ذلك سبيلا، فتجده متحير، بين الإثبات والتفويض.

قال الترمذي في جامعه: "وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا التشبيه" اهـ

ومعنى قول إسحاق: هو أن المشبه، هو من مثّل صفات الله تعالى بصفات خلقه، بما فيها من كمال أو نقص، فهذا هو المشبّه عندهم، وكان الأولى تسميته بالممثّل، حتى لا يختلط الأمر على من يجيء بعدهم. 

وهذا واضح من قولهم: "يد كيد .. سمع كسمع" والكاف هنا للتمثيل، والمكافئة، والندّيّة. ثم قولهم: "أو مثل يد .. أو مثل سمع" يريدون بذلك، أن يبيّنوا أن الكاف في قولهم: "يد كيد .. سمع كسمع" إنما يريدون بها المماثلة فقط.

لذلك فالمرجع في تأويل القرآن، هي الأحاديث النبويّة الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إلى لغة العرب، وما يفهمونه من معاني كلامهم، الفهم العربي الأميّ. 

والآيات والأحاديث الصحاح المرفوعة، قاطعة بوجود الشبه بين صفات الله وصفات خلقه، وقد بيّنتها في كتابي: "الصفات".

بل لو صح هذا عن أحد من الصحابة أو التابعين، أو أحد من أئمة الدين، نفي الشبه من جميع الوجوه، لم يكن فيه حجّة، لأن قول الصحابي أو التابعي ومن بعدهم، لا يكون حجّة إلا إذا وافق الدليل الشرعي من الكتاب ومن السنة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان موافقا لمعاني كلام العرب الذي تعرفه من كلامها. فإن عارض شيئا من ذلك، لم يكن حجّة.

فكلام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن جاء بعدهم، إنما يستأنس به، فهو ليس بحجة، ولكنه يؤخذ به، إذا كانت الآيات والأحاديث المرفوعة ولغة العرب تؤيّده، وتصححه، وأما إن تعارض مع شيء من ذلك، فيجب اطّراحه.

هذا هو الحق، الذي يجب على الكل اتباعه، إن شاء الله تعالى.

وفي هذه المسألة، لم نجد هناك خبرا صحيحا عن النبي أو الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين، يخالف الحق الذي ورد في القرآن والسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويخالف معاني كلام العرب، مما يثبت بطلان تلك الأخبار، إلى من نسبت إليهم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.

وأما قول أئمة السنّة: "لا يقال في صفات الله كيف".

وقولهم: "أمروها بلا كيف".

وقولهم: "بلا كيف ولا معنى".

فمعناه: ألّا توضع لها كيفية، تخالف ما تبادر إلى الأذهان، من معانيها. فكما أنك لا تضع لها معان تخالف معانيها الظاهرة، التي تعرفها العرب من كلامها، فكذلك، لا تضع لها كيفية تخالف ما يتبادر إلى الأذهان من معانيها الظاهرة، التي تعرفها العرب من كلامها.

والدليل على ذلك، أنه ورد إثبات الكيفية لبعض صفات الله تعالى في القرآن والسنة النبوية الصحيحة.

كما ورد أن صورة الإنسان على صورة الرحمن، وأن لله وجه وعينان ويدان في كل يد خمسة أصابع وقدمان، وأن للقدمين كرسي يضع الله قدميه عليه، وأن الله يتكفؤ الأرض يوم القيامة كما يتكفؤ أحدنا خبزته، كل هذا تكييف لصفة الله تعالى.

ثم صفات الله تعالى، منها ما ورد في الوحيين بيان كيفيّته، فوجب إثبات هذا القدر، على المعنى الذي تعرفه العرب من كلامها، ومن صفات الله تعالى، ما لم يرد في الوحيين بيان كيفيته، فوجب السكوت عنه، وعدم الخوض فيه، بل يقال فيه: الله أعلم بكيفية تلك الصفات. 

وهذا هو مذهب أئمة السنة، والدليل على ذلك، أنهم هم، من أخبرنا بكيفية بعض صفات الله تعالى، التي ثبتت كيفيتها بنص الوحيين، كالصورة والجلوس على العرش ونحو ذلك.

وأما ما أثر عن مالك في استواء الله تعالى على عرشه، في قوله: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول" .. إلخ.

فأقول: إن قول مالك رحمه الله تعالى: "والكيف غير معقول" ليس نصّا شرعيا، وإنما هو رأي مالك، بحسب ما أداه إليه اجتهاده، وهذا إن كان مراده بنفي الكيفية هنا، نفي الهيئة، أو نفي الكيفية من جميع الوجوه، وهذا قول، ترده الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة والحسنة، الدالة على إثبات كيفية كثير من صفات الله تعالى، ومنها الجلوس على العرش، فجلوس ملوك الأرض على عروشهم، يشبه جلوس الله تعالى على عرشه في الكيفية، لما ثبت أن صورة الإنسان تشبه صورة الله تعالى، ولما ثبت أن لله عرشا يجلس عليه، وأن له قدمان، وأن لقدميه كرسي يضعهما عليه، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض صالحي عباده إن شاء الله، لربهم في صورة شاب، وبعضهم، رآه جالساً على عرشه، كما يجلس ملوك الإنس على عروشهم.

ومع ذلك، فإنه يمكن توجيه قول مالك، بما لا يخالف النصوص الشرعية، إذ يظهر لي، أن مراده، أن استقرار الله على عرشه، أكمل من استقرار البشر على عروشهم، وهذا لا يمكن معرفة كيفيته، لعدم وجود نصّ شرعي في ذلك، إلّا بالظن والتخمين. 

وقس على هذا، جميع صفات الله تعالى.

والله وحده أعلم وأحكم.

من أين أخذ الأشاعرة والماتريدية بدعة الكلام النفسي؟

قال يوحنا الدمشقي النصراني: "هذا الإله وحده ليس هو خائباً من كلمة، فله كلمة ليست خائبة من قنوم، ليست مبتدئة الوجود ولا منتهية، لأن الإله ما كان في وقت من الأوقات خائباً من كلمة .. مولودة منه دائماً". 

وقال: "وليست كلمته مثل حكمتنا خائبة من قنوم، ومتدفقة في الهواء، لكن كلمته ذات قنوم حيّ كامل ليس متميزاً منه، لكنه موجود فيهى دائماً، لأنه إذا كانت كلمته خارجاً منه فأين تكون؟ ولَعَمْري إن طبيعتنا إذ هي بالية سريعة الانحلال، لذلك توجد كلمتنا خائبة من قنوم". 

وقال: "وينبغي أن نعلم أن حركة عقلنا الأولى، تدعى فهماً، والفطنة بشيء من الأشياء تدعى هَِّمة، فهذه إذا ثبتت ورسمت في أنفسنا قِيماً قد فطنت به تسمى رويّة، والروية إذا ثبتت في بحث واحد بعينه، وميَّزت ذاتها، وتصفحتها، تسمى بصيرة، والبصيرة إذا اتسعت، فمن شأنها أن تولِّد الافتكار المسمى قولًا مستكيناً .. ومنه يبرز .. الكلام البارز منطوقاً به باللسان .. ".

وقال: "والقوة الناطقة من النفس أيضاً، تنقسم إلى الكلام المستكن وإلى الكلام البارز، فالكلام المستكن هو حركة النفس بقوتها المفكِّرة، متكوِّنة خلواً من تصويت ما، فمن هذه الجهة، ربما نكون صامتين فننطق عند ذواتنا قولًا كله، ونناظر في مناماتنا قوما ونخاطبهم .. والكلام البارز، حاوياً فعله في الصوت وفي المخاطبات، أعني الكلام البادي باللسان والفم، ولذلك يدعى كلاماً بارزاً، وهو رسول الفهم". 

قال الدكتور كمال اليازجي، في كتابه: يوحنا الدمشقي أرائه اللاهوتية ومسائل علم الكلام، ما نصّه: وأهم ما في هذا الشرح، في ما يعنينا، تمييزه بين الكلام المستكين والكلام البارز، إذ هو شبيه بما وصفه الأشاعرة في شرح أزلية الكلام الإلهي بـ "الحديث لانفسي" تمييزاً له عن الكلام المنطوق به والمسموع. 

قلت: ما قاله يوحنا الدمشقي هو عين اعتقاد الأشاعرة والماتريدية، الذين يزعمون أن كلام الله تعالى مجرد حديث نفس، ويسمونه: كلام نفسي. وأن الصوت والحرف مخلوقان من مخلوقاته، وليسا من صفاته، وأن كلام الله النفسي لا ينقطع، فهو دائماً يتكلم بكلامه النفسي، أزلًا وابداً. 

ويوحنا الدمشقي توفي سنة 132 للهجرة النبوية الشريفة، بينما أبو الحسن الاشعري توفي سنة 324 للهجرة، وتوفي أبو منصور الماتريدي سنة 333 للهجرة. وأما إمامهما في القول بابدعة الكلام النفسي، عبدالله بن سعيد بن كلّاب، فقد توفي سنة 240 للهجرة، وهذا يعني، أن الأشاعرة والماتريدية، إنما أخذوا بدعة الكلام النفسي، من فرضيَّات يوحنا الدمشقي النصراني، مما يؤكد العلاقة الوطيدة بين هذه الطوائف المنحرفة عن هدي القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولغة العرب، وبين النصرانيَّة، وهذا ليس بمستغرب، فإن بدعة التعطيل أساساً، إنما أخذها إمامهم الجعد بن درهم من فلاسفة النصارى، حيث كان الجعد بن درهم، يجتمع بهم في دمشق، ويأخذ عنهم الكلام والفلسفة. ومما لا ريب فيه، أن اليهود والنصارى، سبقوا المتكلمين إلى الأخذ بأراء فلاسفة الإغريق في الصفات الإلهية، وأنهم كانوا وسطاء بين المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وبين فلاسفة الإغريق، مما سهّل اتصال المعتزلة والأشاعرة والماتريدية بفلاسفة الإغريق، والأخذ عنهم مباشرة دون واسطة.

نقل فتوى للإمام أحمد والتعليق عليها

لما كان الإمام أحمد يقول بعدم التفرقة بين اللفظ والملفوظ، طرح بعض الإستدلالات ليثبت بذلك قوله. 

فقد قال عبدالله بن حنبل في السنة: سألت أبي رحمه الله قلت: ما تقول في رجل قال: التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق؟ وما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ فقال: هذا يجانب وهو قول المبتدع، وهذا كلام الجهمية ليس القرآن بمخلوق، قالت عائشة رضي الله عنها: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب} [آل عمران] فالقرآن ليس بمخلوق. 

قلت: ولا أعلم، ما هو الشاهد من الآية التي استدل بها الإمام على أن اللفظ والملفوظ واحد، لأني لا أجد في هذه الآية ما يشهد لصحة قوله! 

وقال عبدالله: سألت أبي رحمه الله قلت: إن قوما يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق، فقال: هم جهمية وهم أشر ممن يقف، هذا قول جهم، وعظم الأمر عنده في هذا، وقال: هذا كلام جهم، وسألته عمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: قال الله عز وجل {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة] قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أبلغ كلام ربي". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس". 

قلت: فأما احتجاج الإمام بقول الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة]، فليس فيه ما يدل على بطلان من فرّق بين اللفظ والملفوظ، لأننا قلنا، بأن الكلام ينسب إلى قائله ابتداء، وإن كان المتكلم به غيره، فنعم، نحن نُسِمع كلام الله تعالى لغيرنا، ولكن نؤديه بكلامنا نحن، وكلامنا من أفعالنا، وأفعالنا مخلوقة. ويدل على ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد نفسه بعد ايراده لهذه الآية، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أبلِّغ كلام ربي"، فأخبر أن الكلام كلام الله، وأنه هو المبلِّغ عن الله تعالى، لا أن الله تعالى هو من يتكلم بنفسه على ألسنة خلقه، تعالى الله. 

وأما احتجاج الإمام أحمد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس". فهذا استدلال باطل، لأن النبي قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". فهل التسبيح والتكبير من كلام الله تعالى أم من كلام المخلوق؟! إنما مراد النبي صلى الله عليه وسلم بكلام الناس في هذا الحديث، ما يقع بينهم من أحاديث خارج الصلاة، وخارج العبادة، لا أن مراده أنه لا يصلح في الصلاة إلا كلام الله! 

إذاً تبيّن لنا أن جميع استدلالات الإمام أحمد لم تكن صحيحة، ولكن حسبنا أن الإمام أحمد نفسه رجع عن هذا القول، إلى الوقف والتفويض! 

وأما قول الإمام أحمد في الواقفية، وهم الذين يقولون: لا نقول في القرآن بأنه مخلوق ولا غير مخلوق، فواعجبي، لمَّا لم يعقل الواقفة في القرآن، هذه المسألة، واحتاروا فيها، ووقفوا، ولم يقولوا: بأن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، لم يرتض منهم الإمام أحمد هذا القول، بل حكم بأنهم شرٌّ من الجهمية! بينما ارتضى هو أن يكون واقفياً في مسألة اللفظ والملفوظ، مع أنه لا فرق بين من وقف في القرآن، ومن وقف في مسألة اللفظ والملفوظ. 

وهذا دليل على أنه يجب أن لا يؤخذ كلام العلماء وأراءهم على محمل الجدّ، حتى يكون الدليل معهم، وإلا فيبقى قولهم بلى قيمة علمية. 

انتهى والله أعلم وأحكم.

القول في مسألة القرآن

فإذا كان الله يتكلم بصوت يسمع، فإن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهذا إجماع أئمة أهل السنة والجماعة، لا يعرف لهم مخالف في ذلك، سوى المتكلمين من المعتزلة وورثتهم من الأشاعرة والماتريدية. 

قال عبدالله بن حنبل: سمعت أبي وسأله عبد الله بن عمر -المعروف بمشكدانه- عن القرآن؟ فقال: كلام الله عز وجل وليس بمخلوق. 

وقال: سمعت أبي رحمه الله، مرة أخرى سئل عن القرآن، فقال: كلام الله عز وجل ليس بمخلوق ولا تخاصموا ولا تجالسوا من يخاصم. 

وقال: حدثني أبو جعفر بن إشكاب، قال: سمعت أبي وهو الحسين بن إبراهيم بن إشكاب، ما لا أحصي يقول: القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر. 

وقال: حدثنا أبو الحسن بن العطار، قال: سمعت عاصم بن علي بن عاصم، يقول: القرآن كلام الله عز وجل. وأُراه قال: ليس بمخلوق. قال أبو الحسن: وسمعت هارون الفروي، يقول: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. 

وقال: حدثني أبو الحسن بن العطار، قال: سمعت عبد الوهاب بن الحكم الوراق، يقول: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق. 

وقال: حدبني أبو الحسن بن العطار، سمعت سفيان بن وكيع، يقول: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق. 

قلت: وكيع هو شيخ الإمام الشافعي. 

وقال الإمام البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: وقال بعض أهل العلم: إن الجهمية هم المشبهة، لأنهم شبهوا ربهم بالصنم، والأصم، والأبكم، الذي لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يخلق، وقالت الجهمية: وكذلك لا يتكلم، ولا يبصر نفسه، وقالوا: إن اسم الله مخلوق، ويلزمهم أن يقولوا إذا أذَّن المؤذِّن أن يقولوا: لا إله إلا الله الذي اسمه الله، وأشهد أن محمدا رسول الذي اسمه الله، لأنهم قالوا: إن اسم الله مخلوق، ولقد اختصم يهودي ومسلم إلى بعض معطليهم فقضى باليمين على المسلم، فقال اليهودي حلِّفه بالخالق لا بالمخلوق، فإن هذا في القرآن، وزعمت أن القرآن مخلوق، فحلفه بالخالق، فبهت الآخر، وقال: قوما حتى أنظر في أمركما، وخسر هنالك المبطلون. 

وقال البخاري: حدثنا الحسن بن صباح، حدثنا معبد أبو عبد الرحن الكوفي، نزل بغداد، حدثنا معاوية بن عمار، قال: سألت جعفر بن محمد عن القرآن فقال: ليس بخالق ولا مخلوق. 

وقال البخاري: وقال أبو عبد الله: احتج هؤلاء: يعني الجهمية بآيات، وليس فيما احتجوا به أشد التباسا من ثلاث آيات ، قوله: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان] ، فقالوا: إن قلتم: إن القرآن لا شيء كفرتم، وإن قلتم: إن القرآن شيء فهو داخل في الآية، والثانية قوله: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء]، قالوا: فأنتم قلتم بقول النصارى لأن المسيح كلمة الله، وهو خلق، فقلتم إن كلام الله ليس بمخلوق، وعيسى من كلام الله، والثالثةَ: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء]، وقلتم ليس بمحدث. قال أبو عبيدة: أما قوله: {وخلق كل شيء} [الفرقان]، فهو كما قال، وقال في آية أخرى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل]، فأخبر أن أول خلق خلقه بقوله، وأول خلق هو من الشيء الذي يقال: {وخلق كل شيء} [الفرقان]، فأخبر أن كلامه قبل الخلق، وأما تحريفهم: إنما المسيح عيسى بن مريم، فلو كان كما قالوا لكان ينبغي أن يكون بين الدفتين: وكلمته ألقاها إلى مريم لأن عيسى مذكر، والكلمة مؤنّثةَ لا اختلاف بين العرب في ذلك، وإنما خلق الله عيسى بالكلمة لا إنه الكلمة، ألا تسمع إلى قوله: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء]، يعني جبريل عليه السلام، كما قال في آية أخرى: {فأرسلنا إليها روحنا فتملَ لها بشرا سويا} [مريم]، وقال: {إن مثلَ عيسى عند الله كملَ آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران]، فخلق عيسى وآدم بقوله: كن وليس بين هاتين الآيتين خلاف، وأما تحريفهم: {من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء]، فإنما حدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما علمه الله ما لم يكن يعلم. 

وقال البخاري: وقال أبو عبد الله: والقرآن كلام الله غير مخلوق، لقول الله عز وجل: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيَثاَ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}، فبين أن الخلائق والطلب، والحثيَث، والمسخرات بأمره، ثم شرح، فقال: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} [الأعراف]، قال ابن عيينة: قد بين الله الخلق من الأمر بقوله: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف]، فالخلق بأمره كقوله: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم]، وكقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول لهكن فيكون} [يس]، وكقوله: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم]، ولم يقل بخلقه. 

قلت: فهذا إجماع منَّ أئمة السنة، لم يختلفوا عليه، كما اختلفوا في مسألة اللفظ، وسوف يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، فإذا اتّفق أئمة السنة على مسألة، لم يكن الحق ليكون في غيرها، إن شاء الله، وأنا أعلم، أن أئمة السنة بشر يصيبون ويخطئون، وإنما جئت من أقوالهم ما يؤيد الحق، ويثبته.

الرد على شبهة الجهمية الأشعرية في نفيهم أن يكون كلام الله بصوت وحرف.

الشبهة الأولى:

احتجاج الأشاعرة والماتريدية بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم السقيفة، عندما قال: "كنت زورّت كلاماً في نفسي". وهذا أيضا ليس بحجة، فهو زوّر الكلام الذي سوف يقوله في نفسه، ولم يقل تكلَّمت في نفسي بكلام، وإنما زوّر الكلام، أي: أعدّه ونظمه، ولكنه لا يكون كلاماً حتى ينطق به.

الشبهة الثانية:

زعم الأشاعرة والماتريدية أيضا أن الكلام يشمل الكتابة والإشارة، وهذا ادعاء بغير دليل، وهذا أيضا باطل، فالمكتوب هو الكلام المسموع، ولكن الكتابة ليست كلاما، بل هي كتابة، فما في الكتاب هو كلام من تكلم به بصوت مسموع، دُوِّن في الكتاب -أي: رُسِم- كي لا يضيع، وأما الإشارة فقد سبق الرد عليها فيما أخبرنا الله به عن مريم وزكريا عليهما السلام، فلو كانت الإشارة كلاما لما جاز لهما أن يشيرا إلى قومهما.

الشبهة الثالثة:

احتجاجهم ببيت الأخطل:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما.. جعل اللسان على الفؤاد دليلا.

وقد أجاد الأستاذ عثمان العمودي وأفاد في الرد على هذا البيت ونقض استدلال المتكلمين به، حيث قال: "إنَّ مورد الاستدلال بكلام العرب وأشعارِهم إنَّما هو في الألفاظ والتراكيب والأساليب، لا في الحقائق والمعاني. وبيانُ ذلك أنه لا يستقيمُ لأحدٍ أن يسمعَ قول الحماسي:

هل الحبُّ إلا زفرةٌ بعد زفرةٍ .. وحرٌّ على الأحشاء ليس له بردُ

فيقولَ في حدِّ الحب: (ما كان يزفر منه الإنسان مرةً بعد أخرى، ويلاقي في أحشائه الحرَّ منه)! وهل البيتُ إلا دعوى أطلقها عاشقٌ آخرَ الليل! فإنَّ الشعراء والأدباء لا تؤخذ منهم الحقائق والمعاني، ولا يُرجَع إليهم في الحدود والتقاسيم، ولا يصحُّ لنا أن نستجلب المعاني التي ترنَّم بها عنترةُ في عبلة، أو سوَّدها كثيِّرُ في عزَّة، أو أرسلها ذو الرمَّة إلى ميَّة؛ ثم نقرِّر بها مسألةً من أصول مسائل الاعتقاد. ومحلُّ الاحتجاج بشعرِهم إنَّما هو فيما انفردوا فيه من الفصاحة والبلاغة والعلم باللغة وألفاظها واستعمالاتها. لا في المعاني التي ربَّما فاقَهم في الإتيان على أحسنِها بعضُ المتأخرين. ولو اطَّرد المستدلُّون بهذا البيتِ لجعلوا مصعبَ بن الزبير اسماً لنيزكٍ محترقٍ على الحقيقة! أليس يقول ابنُ قيس الرقيَّات:

إنَّما مصعَبٌ شهابٌ من اللهِ .. تجلَّت عن وجهِه الظلماءُ!

وللَزِم بذلك أن يكون النعمانُ اسماً للشمسِ التي تدورُ عليها الأفلاك، كما قال النابغة (فإنَّك شمسٌ والملوك كواكبٌ)، ولكان إطلاقُ الرسول حقيقةً يصدُق على النورِ الذي قال فيه كعبُ بن زهير (إنَّ الرسول لنورٌ يُستضاء به)، وإذا نزل إلى شعر المتأخرين فسيجعل النسيانَ علةَ تسميةِ الإنسان أخذاً من قول أبي تمام (سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسي)، أو يجعل المتكلِّم بالحبِّ كاذباً، فإنَّ (الحب ما منع الكلامَ الألسنا) كما يقرِّر أبو الطيِّب، وليس لهم أن يقولوا: “إن هذه الأبيات تفترق عن ذلك، فإنَّها جاءت على ما تعرفه العربُ من المدح والاستعارة وجودة التشبيه”. إذ إننا سنقول في بيت الأخطل ما قالوه، وأنَّه جارٍ على مذهبِ العربِ في التلطُّف وحُسن التعليل" انتهى كلامه.

الشبهة الرابعة:

يزعم الجهمية من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، أن الصوت لا يمكن أن يحدث إلا باصطكاك الأجرام! وطبعاً هذا قياس عقلي فهم لما رأوا في زمانهم أن الأصوات لا تكون إلا باصطكاك الأجرام زعموا ذلك، فكان جواب أهل السنة "السلف": أنه لا يلزم من صدور الصوت أن تصطك الأجرام ولا يعني أننا لا نرى ولا نشاهد الصوت يصدر إلا من اصطكاك الأجرام أن الصوت لا يصدر إلّا كذلك.

ومع تقدم العلم وخروج المذياع والتلفاز والتلفون والجوال بان بعد نظر أهل السنة "السلفيون" ورجاحة عقولهم وتبيّن قصر نظر المتكلمين وسخافة عقولهم.

وكذلك دلّت الأدلة الشرعية على أنه قد يصدر الصوت من الأشياء بدون اصطكاك أجرام، كما ورد في الحديث الصحيح، الذي رواه مسلم واللفظ له، ورواه الترمذي، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن". 

فدلّ هذا الحديث على أن الصوت قد يصدر من المخلوقات وإن لم يكن هناك اصطكاك أجرام، فالحجر الذي كان يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم، كان يتكلَّم بلا فم ولا لسان ولا أسنان ولا لهاة ولا حلق، وبلا اصطكاك للأجرام.

الشبهة الخامسة:

يزعم الجهمية من المعتزلة والأشعرية والماتريدية أن الحصى والكواكب والسماوات والأرض تسبِّح والتسبيح كلام ومع ذلك لا نسمع لها صوتاً فدل هذا على أن من الكلام ما لا يكون صوتا.

والجواب على ذلك من وجهين:

الأول: من قال بأن التسبيح يلزم منه أن يكون كلاما، ويجب أن يصدر منه صوت، فمن التسبيح ما يكون بين العبد ونفسه، فيسبح الله في نفسه "حديث نفس" وقد قال الله تعالى "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" فمن الذكر ما يكون في النفس وليس كلاما.

والثاني: من قال بأن الحجر والشجر والنجوم والكواكب والسماوات والأرض لا تصدر صوتا عند تسبيحها! فقد تسبّح هذه الكائنات بصوت ولكن لا نسمعه، بمعنى أن الله تعالى حجب عنّا سماع أصواتها كما حجب عنّا سماع صوته وسماع أصوات الملائكة وسماع أصوات الجن وسماع أصوات البعيدين عنّا.

والدليل على ذلك أنه ورد في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الصحابة صوت تسبيح الحصى، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كنت أتبع خلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت يوما، فإذا هو قد خرج فاتّبعته فجلس في موضع فجلست عنده فجاء أبو بكر فسلَّم وجلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمر فجلس، عن يمين أبي بكر، ثم جاء عثمان فجلس يمين عمر، قال: فتناول النبي صلى الله عليه وسلم حُصيَّات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم وضعهن في يد أبي بكر فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن.

رواه البزار في مسنده.

ووكان يسمعهم تسبيح الطعام وهو يؤكل، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ولقد كُنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل".

رواه البخاري.

فيكشف الله تبارك وتعالى الحُجُب عن أسماع الصحابة بمقدارٍ  يسمعون فيه صوت تسبيح الحصى والطعام، ثم يحجبه متى شاء.

قلت: وسلام الحجر على النبي بصوت، وتسبيح الطعام والحصى والكواكب والسماوات والأرض، تشير إلى أن هذه الكائنات وإن بدت لنا جمادات خرساء إلا أنها في الحقيقة أحياء عاقلة ناطقة، ولكن حياتها لا ندركها، فحياتها بينها وبين ربها، وإنما هي بالنسبة لنا جمادات.

الشبهة السادسة:

احتجاج كهنة الاشاعرة والماتريدية على ان حديث النفس كلام بقوله تعالى ﴿قَالُوۤا۟ إِن یَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أخ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا یُوسُفُ فِی نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ یُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرّ مَّكَاناۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف]

فيوسف قال في نفسه أنتم شر مكانا .. والقول كلام!

والجواب: أن القول أعم من الكلام والكلام أخص، فالكلام لايكون إلا منطوقا ملفوظا بصوت وحرف.

فمعنى القول: أي: الانتقال من حال إلى حال.

كما تقول العرب: قالت السماء فأمطرت، أي: انتقلت من حال إمساك المطر، إلى الإمطار. وكما تقول العرب: قال الجدار فوقع. أي: انتقل من حال الوقوف والاعتدال، إلى حال السقوط.

فمحدث نفسه قائل، لأنه انتقل من حال عدم حديث النفس إلى حال محادثة النفس. فحديث النفس قول، ولكنه ليس كلاما.

تنبيه: اللغة سواء كانت عربية أو أعجمية، هي الأصوات التي يصدرها المتكلِّم عندما يتكلم، والكلام فعل، وفعل العبد مخلوق، لأن الآلة التي يستخدمها العبد للفعل مخلوقة، وأما فعل الله فغير مخلوق، لأنه خالق وليس بمخلوق، وعلى هذا فأي لغة يتكلم الله بها فهي غير مخلوقة، لأنها من فعله سبحانه، وأي لغة يتكلم بها العبد مخلوقة، لأنها من فعل العبد.

وأما الشيء الذي لا يتكلم بصوت وليس بأخرس، كما يقول المتكلمون، فهذه صفة العدم، فإن العدم لا يتكلم وليس بأخرس أيضاً.

تأويل حديث: "وأنت الباطن فليس دونك شيء"

تأويل حديث: " اللهمّ أنتَ الأوّلُ فليسَ قبلكَ شيء ، وأنتَ الآخرُ فليسَ بعدكَ شيء ، وأنتَ الظاهرُ فليسَ فوقكَ شيء ، وأنت الباطنُ فليسَ دونكَ شيء" اهـ

فقوله: "أنت الأول فليس قبلك شيء": أي أنت أول الأشياء، فليس هناك شيء وجد قبل الله أو مع الله. وهذا كناية عن أزليّته.

وقوله: "وأنت الأخر فليس بعدك شيء": أي: ليس يبقى بعدك شيء، لو كانت كل الاشياء تفنى، وهذا كناية عن أبديته. وأنه الحي الذي لا يموت.

وقوله: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء"، الظاهر من الظهور، وهو البروز، والمراد به هنا العلوّ، لأنه قال: "فليس فوقك شيء" أي: لا يعلوك شيء، والنفي هنا مطلق غير مقيّد ولا مخصّص، فدل على أن المراد بالظهور هنا ظهور الذات والقدر والقهر والغلبة والسلطان.

وقوله: "وأنت الباطن فليس دونك شيء": اي: لا يخفى عليك شيء من أمور عبادك، والعرب تقول: ليس دون فلانٍ سِرّ، اي: لا يخفى عليه سِرّ. وقوله: "الباطن". أي: من الاستبطان، وهو الدخول في باطن الشيء، والدخول هنا بمعنى دخول الله تعالى بعلمه في بواطن الأشياء، فلا يخفى عليه منها شيء.

وليس معناه: ليس تحته شيء. فباطن الشيء، هو داخله، فالله داخل بين الأشياء بعلمه، وأما التحت، فهو السّفّل، فبين الكلمتين فرق كبير، فتنبه.

دفاعا عن أئمة السنة

اعلموا معاشر المسلمين أن أئمة السنة لم يقعوا في أبي حنيفة ويجرحوه لأنھم مجموعة من الحسدة والحقدة وقليلو الدين والتقوى، كما يريد أن يصوِّرَهم لنا من أعمى الله بصيرته. ولم يكن أبو حنيفة يبلغ عُشر أحدھم في علمه وفقھه، لقلة بضاعته في الحديث، لكي يحسدوه على علمه وإنما وقعوا فيه وجرحوه لما أظھر من البدع كالتجھم والإرجاء والخروج وقد فسروا جرحھم له بماىينفي عنھم التھمة

فاتقوا الله سبحانه وتعالى

والله ما تعاقب الليل والنھار حتى صرنا نكافح عن ائمة السنة وندافع عنھم ضد من يتمسح بھم ويستشرف بالانتساب إليھم

إن كنتم تريدون الدفاع عن أبي حنيفة فشأنكم وھذا أمر في ذمتكم ولكن لا تفتروا على ائمة السنة الكدب وتبھتوھم وتدعوا انھم انما حسدوه على علمه وفقھه، وأي علم وفقه حازه أبو حنيفة عنھم حتى يحسدوه عليه!!


شبهة زواج النبي (ص) من قاصرة وسبيه للنساء والذرية في غزواته

س: لماذا تزوج النبي محمد صلى اللھ عليھ وسلم عائشة وھي بنت ٩ سنين فقط؟!

ج: لأن تزويج الفتيات في سن ال ٩ سنوات كانت عادة جارية عند العرب في ذلك الزمان لا تنكر، بل إن عائشة قبل خطبة النبي لھا كانت مخطوبة لرجل من قريش، فتركھا بسبب إسلام والدھا أبي بكر الصديق

س: لماذا النبي محمد صلى اللھ عليھ وسلم يسبي النساء والذراري في غزواتھ؟!

ج: لأن ھذا شيء متعارف عليھم عند العرب قديما ومشروع دوليا وقبليا وقرويا لا يستنكر، ولعل من الحكمة في ذلك، أن اللھ تعالى يعاقب الناس من جنس فعلھم، فكما أن الكفار يسبي بعضھم بعض ويسترق بعضھم بعضا عاقبھم اللھ بالمسلمين من جنس فعلھم. 

النتيجة: من الخطأ أن تقيس الأوضاع التي عاشھا النبي صلى اللھ عليھ وسلم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بوضعك الحالي، وأن تقيس ما جرت عليھ عادة الناس في زمن النبي صلى اللھ عليھ وسلم بما جرت عليھ عادة الناس في زمنك.

س: أوليس الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان؟ فكيف تجمع بين تعليلك سبب زواج النبي بقاصرة وسبيه للنساء والذرية بظروف ذلك الوقت؟

ج: نعم الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ولذلك أباحت الزواج من قاصرة، لأن هذا هو الأصل، ولا شيئة فيه من جهة العقل والفطرة معاً، بل إن من طعن في زواج الرجل من قاصرة، إنما طعن فيه لأن القوانين التي وضعها البشر "ترى" أن ذلك قبيح وغير حسن، والعجيب أن الذي يحرمون زواج القاصرة، هم أنفسهم الذين يبيحون زنا القاصرة مع قاصر مثلها!

الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ولذلك أباحت سبي النساء والذرية، لأن هذا في حكم الأعم الأغلب على الناس، وأما استنكار ذلك واستقباحه، فهو أمر حادث، لم يكن عليه الناس من قبل، ولن يستمر إلى الأبد، فما إن تسقط هذه الهيلمة، حتى يعود الناس إلى إباحة السبي، مع العلم، أن جيوش الوقت الحاضر، لا يتنزهون عن أغتصاب النساء وإهانتهن، بدل سبيهن.

ولكون الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فهي شريعة مرنة، فمثلاً: الأصل في المصلّي أن يصلي واقفاً، ولكن إن عجز عن ذلك، فالشريعة تبيح له أن يصلّي جالساً، فكذلك الزواج من قاصرات أو سبي النساء والذرية في الغزوات، إذا صارت عند الناس أمراً مستقبحاً مستشنعاً، فالشريعة تعطيك الحرية في عدم الزواج من قاصرات أو عدم سبي النساء والذرية، تحبيباً لناس في الإسلام، وعدم فعل ما قد ينفّرهم منه.