بيان الشرك الأكبر من الشرك الخفي والرد على شبه الزنادقة

والشرك الخفي، هو شِرك الرياء.

وهذه المسألة، من المسائل التي احتج بها الزنادقة، الذين يزعمون أن عبادة غير الله تعالى لا تكون شِركاً، حتى يقترن بها اعتقاد الربوبيَّة العظمى في المعبود من دون الله تعالى.

وهؤلاء حاصل قولهم، أن مشركي العرب قبل الإسلام، لو عبدو اللات  والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وهبل وودّ وسواع يغوث ويعوق ونسرا، فإنه لا بأس في فعلهم، لولا أنهم وصفوهم بالأرباب. 

وقد احتالوا في تقرير هذا المعنى وشرعنته، بشتى الحِيَل، كان أخرها، هو احتجاجهم بالشرك الخفي، الذي هو الرياء.

فقالوا: أوليس الرياء شِرك؟ فإذا قلت: بلا. 

قالوا: أوليس فاعله لا يخرج من الإسلام؟ فإذا قلت: بلا.

قالوا: إذا ما عِلَّت عدم خروجه من الإسلام، مع أنه أشرك في عبادته مع الله تعالى غيره، إن لم يكن السبب هو عدم أعتقاد العابد أن معبوده ليس ربّاً.

فغذا سمعهم من قَلّ عقله وفقهه، وأراد الله فِتنته، صدّقهم على قولهم، بينما قولهم غاية في التهافت والتفاهة.

لأن قولنا: لولا الكلب لسرقنا اللصوص، هي كلمة شِرك، ولكنها ليست شركاً أكبر، لأنك نسبت الفضل إلى الكلب في أمر يقدر الكلب على عمله، وقد عمِلَه، ولكنك لم تذكر فضل الله عليك في حمايتك، بحيث هيئا لك هذا السبب الذي يحميك، ولولا أن هيئ الله لك هذا السبب ما فطنت للصوص. 

والأصل أن تقول: لولا الله ثم الكلب، لسرقنا اللصوص. فتجعل الفضل لله تعالى في حمايتك من اللصوص، والكلب سببٌ أمدك الله به، في هذه الحماية.

وكذل الحلف بغير الله تعالى، فهو شِرك، ولكنها شرك أصغر، لأن الحلِف تعظيم للمحلوف به، والتعظيم لا يجوز إلا لله تعالى، ومع ذلك هو ليس شركاً أكبر مخرج من الإسلام، لأن الحالف لا يعتقد في قرارة نفسه، أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في عظمته.

وكذلك المرائي، شركه من جنس شِرك هؤلاء، 

فالمرائي يؤدي العبادات المفروضة، سواء رآه الناس أو لم يروه، وهو يرديها لله، فهو يصلي لله لا للناس، ويزكي لله لا للناس، ويصوم لله لا للناس، ويحج لله لا للناس، ويدعو الله لا الناس، ويذبح وينذر لله لا للناس، ويعمل النوافل لله لا للناس، ولكنه إذا رأى الناس تنظر إليه، داخل قلبه وخالط عمله شيء من الرياء، فصار قلبه مائلاً إلى أن يراه من يراه من الناس، وجال في خلده، أن يقول عنه بأنه يُحسِن أداء العِبادة، أو أنه محافظ على عبادته. 

ولكنه أبداً لم يؤدي العبادة لأجل الناس، ولا لأجل أن ينفعوه أو يضرّوه في أمورٍ لا يقدر عليها إل الله تعالى.

ومثله، من حافظ على صلاته في جماعة، أو أحسن في أداء العبادات، لأجل أن يراه الوُلاة، لكي يعتقدوا فيه الصلاح، فيُعيِّنوه في إحدى الوظائف.

فهذا صلاته في الأصل لله تعالى، وعباداته في الأصل لله تعالى، وهو محافظ عليهما سواء رآه الناس أو لم يروه، ولكنه أحسن في أدائها رياء، لكي ينال بذلك حظّاً من حظوظ الدنيا.

وما خالط قلبه من الرياء، أفسد عليه عمله وحرمه أجره.

لأن العمل الصالح، يجب ألا يُصرف إلا لله تعالى وحده.

مع أن هذا الرياء، رياء يسير، ومع ذلك فسد عمله وحُرِم أجره.

ولكن لو تفاقم هذا الرياء، إلى الحدّ الذي يجعل العبد، لا يؤدّي العبادات إلّا لأجل الناس، فلا يصلي إلا إذا رآه الناس، ولا يزكي ولا يصوم ولا يحج ولا يدعو الله تعالى، إلا إذا رآه الناس، فإن لم يروه لم يقم بشيء من ذلك، وكل عمله ونيّته مصروفة للناس، فهذا ما عاد شِركاً خفيّاً ولا شِركاً أصغراً، بل عاد شِركاً ظاهراً أكبر. 

لأن هذ الشِرك، لم يسمَّى خفياً، لأن رياء المرائي يخفى على الناس، بل سُمّي خفياً، لأن الرياء لقلّة ما شامم القلب منه، أي: أنه لم يختلط بالقلب منه إلّا يسيرا، قد يخفى على المرائي نفسه، فلا ينتبه المرائي لرياءه.

ومع ذلك، هذا اليسير أبطل عمله.

والشِرك في الرياء دركات، هو مِثْل السُلَّم الذي ينزله الشخص، فإذا بلغ مستواً معيَّناً، فقد خرج من كونه شركاً خفياً وشركاً أصغراً، إلى شرك ظاهر أكبر. حتى ولو لم يعتقد الربوبية العظمى في الذين يرائيهم.

لذلك ورد في بعض الأخبار، أن أوّل من تسعّر بهم الناس ثلاثة، قارئ ومجاهد ومتصدق، فأما القارئ فإنما قرا ليقول الناس قارئ، ولوا ذاك لما قرأ، وأما المقاتل فما قاتل إلا ليقول الناس جريء وشجاع، ولولا ذلك ما قاتل، وأما المتصدق، فلم يتصدق إلا ليقال كريم، ولولا ذلك ما تصدّق.

وكونهم أوّل من تسَّر بهم النار يوم القيامة، إشارة إلى أن ما وقعوا فيه من الشرك، ليس شركاً أصغراً، بل شرك أكبر، وإلا لكان غيرهم من المشركين، أحقّ بأن تُسعَّر بهم النار.

نعوذ بالله من حال السوء.

والزنادقة، إنما أُتِيُوا من جهلهم في التفريق بين الشرك الأكبر والرياء، والمنتسبين من أصحاب هذا القول الآسِن، إلى المدرسة السلفية خاصَّة، إنما أخذوه عن أئمتهم من أهل البدع، 

وهم أهل حِيَل ومكر، وبعض حيلهم ومكرهم عظيمة، تجعل الناس تصدّقهم، لخفاء باطلهم ودقّته، وقد وصف الله تبارك وتعالى هؤلاء، بقوله: (وإن كان مكرهم لِتزول منه الجِبال)

فاعلم أن الرياء دركات، وأن اليسير منه لا يوقع العبد في الكفر، بينما لو استفحل، فإنه يُخرج صاحبه من الإسلام بالكُلِّيَّة.