مذهب الشيخين الكرابيسي وابن حنبل في اللفظ والملفوظ

سوف أتكلم عن مذهب أبي عليّ الكرابيسي في القرآن واللفظ والملفوظ، ثم نتكلم عن مذهب أبي عبدالله ابن حنبل في اللفظ والملفوظ، ثم ومن خلال الأدلة الشرعيّة واللغوية وأيضاً العقلية سوف نجتهد في معرفة الحق والصواب بإذن الله تبارك وتعالى.

فكما تعلمون، نحن عُلِّمنا، أن الخلاف بين الشيخين الكرابيسي وابن حنبل، هو في كون الكرابيسي كان جهميّاً باطنيّاً، يُظهِر التسنُن، والقول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ويبطن القول بخلق القرآن، ويحاول تمرير هذه العقيدة الجهمية عبر قوله، بأن لفظه بالقرآن مخلوق. 

وأن ابن حنبل، لم ينكر خلق اللفظ، أي: أصوات العباد، وإنما أبغض الكرابيسي وهجره وحذّر منه، لأنه يعلم مراده من القول بخلق اللفظ بالقرآن. 

ولكن لما تبيّن أن البخاري يقول بقول الكرابيسي في اللفظ، اعتذر المعتذرون بأن ابن حنبل فهم قول البخاري خطأ، وأن البخاري لم يكن يعني بذلك القول بخلق القرآن الذي هو كلام الله تعالى، وإنما أراد القول بخلق اللفظ الذي هو كلام المخلوق، أي: صوته وفعله. فظن ابن حنبل أن البخاري إنما يحتال ليمرِّر عقيدة الجهمية في القول بخلق القرآن، عن طريق القول بخلق اللفظ. 

وهنا تساءلنا: إذاً لماذا لم تعتذروا للكرابيسي كما اعتذرتم للبخاري؟!

وبعضهم قال: لم يقل البخاري ذلك أساساً بل هو نفسه – البخاري – روي عنه أنه أنكر القول بخلق اللفظ.

فلما رأيت الأمر هكذا، علمت أن الأمر يحتاج إلى بحث وتحرٍّ جادٍّ ومحايد، حتى يتبين لي الحقّ في هذه المسألة. 

ولذلك ألّفت رسالة مختصرة في هذا الباب، اسميتها: ترجمة أبي علي الكرابيسي وتحرير النزاع بينه وبين الإمام أحمد بن حنبل، ولم أتوسّع فيها، بل رأيت أن ما نقلته من أخبار وما قدمته من ردود يكفي ويشفي. 

إلا أني لم أبيّن عقيدة الكرابيسي في اللفظ والملفوظ، ظناً مني أن عقيدته في هذا الباب بناء على الروايات المروية عنه معلومة، وإنما ذكرت طرفاً من رأي ابن حنبل في المسألة، ورددت على ذلك.

وأما الآن فسوف أتوسع أكثر، وسوف أبين عقيدة الكرابيسي، بياناً أرجو أن يكون شافياً وكافياً، ثم ابيّن عقيدة ابن حنبل في هذه المسألة بياناً شافياً كافياً، ثم من خلال الأدلة الشرعية واللغوية وأيضاً العقلية سوف نحكم بما أرانا الله إن شاء الله تعالى.

ولكن قبل الشروع في المطلوب، بودّي أن أنبِّه على أمرين:

الأول: أن العلماء بشرٌ من خلق الله، وبالنسبة لي، فقد وصلت إلى مرحلة صرت أعذر فيها كل من أخطأ، حتى في مسائل العقيدة، فيما دون الشرك الأكبر في الربوبية والألوهية، لأن هاتين المسألتين، لا عُذر فيها البتَّة، كما بيّنت ذلك في كتب أخرى - وإن لمت أحداً من أئمة الإسلام في توسُّعه في الأعذار، فهو لأنه يعذر في الشرك الأكبر – أما الصفات فما دونها، فأنا أعذر فيها، لما رأيت حقاً صواب قول من عذر في هذه المسائل، لأن الأدلة تثبت قوله، ما لم يفحش خطأ المخطئ، أي: تكثر أخطاءه العقدية، وزلاته وهفواته، فعندئذ يجب أن يترك ويبرأ منه ويُحذَّر منه، أما من ضل في مسألة أو مسألتين أو ثلاث، فهذا اتجاوز عنه، وأرجو له المغفرة، وأكله لنيّته، فالله أعلم بها، وهو يحاسبه عليها، لأن بعض المُكفِّرات لا تكون كفراً إلّا مع الإصرار والتعمّد في مخالفة الحق.

والإمام أحمد بشرٌ من خلق الله تعالى، يصيب ويخطئ، فإن أخطأ فخطئه قليل، وأرجوا أن يتجاوز الله عنه وعنّا وعن جميع المسلمين، فكُلٌّ خطّاء، ومن علم حال الإمام أحمد علِم شدِّة أتابعه للسُنَّة، واجتهاده في ذلك، وأخطاؤه قليلة، وإن كانت عظيمة، ولكن ما وقع منه إنما وقع عن اجتهاد خاطئ في معرفة مسألة عقدية يكتنفها شيء من الغموض، غموض أدّى إليه، غموض الأدلة الشرعية الواردة فيه.

كما أن قول الإمام أحمد ليس السُنَّة، بل السنة هي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما رأيه وفقهه فقد يصيب فيه الإمام وقد يخطئ.

والثاني: أن الأخلاق لها أثر في قرارات الشخص، وأحكامه، ويجب أن يؤخذ هذا في الحسبان، فإن وجدت بقعة عرف عن أهلها الجفاء والغِلظَة، فيجب أن يعلم الطالب أن لهذه الأخلاق أثر في أحكام علمائها، والعكس صحيح، فإن وجدت بقعة عرف عن أهلها اللين والسهولة، فإن لهذه الأخلاق أثر في أحكام علمائها.

وقد عُرِف عن أهل العراق الجفاء والغِلظة وُزونة الطِباع.

وأخلاق العلماء تؤثِّر في تلامذتهم، وهذا أمر سيء أخر، وإنك لتعجب، كيف أن الشيخ وتلامذته وتلامذة مدرسته، لا يهتدون إلى السُنة في أخلاقهم وتعاملاتهم، وهم يقرأونها، بل إن تلامذة الشيخ وتلاميذ مدرسته، وكأنهم يفضّلون تقليد الشيخ في أخلاقه على تقليد النبي في أخلاقه!

وأنا لا أُكن للإمام أحمد إلا كل خير إن شاء الله، فهو إمام جليل، وإن كنت أجد في نفسي قليلاً على ما يصدر منه من أخلاق أو تصرّفات كان لا ينبغي لرجل طالع السنة وعرفها أن تصدر منه، ولكن الكمال عزيز.

والله أسأل التوفيق والهداية والسداد في القول والعمل.

فأما مذهب الكرابيسي في القرآن واللفظ والملفوظ

فيقول الخطيب البغدادي:

قال أَبُو الطيب الماوردي: جاء رجل إِلَى أَبِي عَلِيّ الْحُسَيْن بن عَلِيّ الكرابيسي فَقَالَ: ما تقول فِي القرآن؟ فَقَالَ حسين الكرابيسي: كلام اللَّه غير مخلوق، فَقَالَ لَهُ الرجل: فما تقول فِي لفظي بالقرآن؟ فَقَالَ لَهُ حسين: لفظك بالقرآن مخلوق، فمضى الرجل إِلَى أَبِي عَبْد اللَّهِ أحمد بن حنبل فعرفه أن حسينا قَالَ لَهُ إن لفظه بالقرآن مخلوق، فأنكر ذلك وَقَالَ: هي بدعة، فرجع الرجل إِلَى حسين الكرابيسي فعرفه إنكار أَبِي عَبْد اللَّهِ أحمد بن حنبل لذلك وقوله هذا بدعة، فَقَالَ لَهُ حسين: تلفظك بالقرآن غير مخلوق فرجع إِلَى أحمد بن حنبل فعرفه رجوع حسين وأنه قَالَ: تلفظك بالقرآن غير مخلوق فأنكر أحمد بن حنبل ذلك أيضا وَقَالَ: هذا أيضا بدعة، فرجع الرجل إِلَى أَبِي عَلِيّ حسين الكرابيسي فعرفه إنكار أَبِي عَبْد اللَّهِ أحمد بن حنبل وقوله هذا أيضا بدعة، فَقَالَ حسين: أيش نعمل بهذا الصبي؟ إن قلنا مخلوق قَالَ بدعة، وإن قلنا غير مخلوق قَالَ بدعة؟ فبلغ ذلك أبا عَبْد اللَّهِ فغضب لَهُ أصحابه فتكلموا فِي حسين، وكان ذلك سبب الكلام فِي حسين والغمز عليه بذلك.

انتهى كلام الخطيب.

فنجد هنا أن الكرابيسي لم يكن يريد مخالفة ابن حنبل، ولذلك لما جاءه أن ابن حنبل يقول عمّن قال بأن اللفظ بالقرآن مخلوق بدعة، رجع عن ذلك، فقال: إذا اللفظ بالقرآن غير مخلوق، فورده من ابن حنبل أنه قال: بأن هذا القول أيضاً بدعة! وهنا تعجّب الكرابيسي، لأنه لابد من أن يكون اللفظ إما مخلوقاً أو غير مخلوق، لا يوجد حالة ثالثة، فإذا كان اللفظ بالقرآن عند ابن حنبل ليس مخلوقاً وليس غير مخلوق، فماذا يا ترى قد يكون؟! وهنا استقلّ الكرابيسي عقل ابن حنبل ووصفه بالصبيّ، استنكاراً لقوله. 

ولعل هذا هو السبب الذي جعل ابن حنبل يسقط من عين الكرابيسي بعد أن كان يرى فيه أنه عالم محقق، وجعله يصرف النظر عن اتباعه، ويجتهد رأيه في هذه المسألة.

فلما بلغ ذلك ابن حنبل وأصحابه، غضب أصحاب ابن حنبل له، تعصُّباً لشيخهم، فاستحلوا الوقوع في الكرابيسي وإساءة الظن به.

وهنا يبيّن لنا الخطيب، سبب الهجمة الشرسة التي تعرّض لها الكرابيسي من أصحاب ابن حنبل، وأن السبب الرئيسي هو وقيعته في ابن حنبل بعد ما صدر منه.

وهذا الغضب من الكرابيسي على ابن حنبل، لم يأتي وليد هذه الواقعة وحدها وحسب، بل سبقتها واقعة أخرى.

قال ابن رجب الحنبلي في شرح علل الترمذي:

قال المروذي: مضيت إلى الكرابيسي وهو إذ ذاك مستور يذب عن السنة ويظهر نصرة أبي عبد اللَّه، فقلت له: إن كتاب المدلسين يريدون أن يعرضوه على أبي عبد اللَّه، فأظهر أنك قد ندمت حتى أُخبر أبا عبد اللَّه. فقال لي: إن أبا عبد اللَّه رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق، وقد رضيت أن يعرض كتابي عليه، وقال: قد سألني أبو ثور وابن عقيل وحبيش أن اضرب على هذا الكتاب فأبيت عليهم، وقلت: بل أزيد فيه، ولجَّ في ذلك وأبى أن يرجع عنه. فجيء بالكتاب إلى أبي عبد اللَّه، وهو لا يدري من وضع الكتاب، وكان في الكتاب الطعن على الأعمش والنصرة للحسن بن صالح. وكان في الكتاب: إن قلت إن الحسن بن صالح كان يرى رأي الخوارج فهذا ابن الزبير قد خرج. فلما قرئ على أبي عبد اللَّه قال: هذا قد جمع للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به، حذروا عن هذا، ونهى عنه.

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام:

قال الحسين الخرقي: سألت أبا بكر المروذي، عن قصة الكرابيسي، فقال: كان أول ما أنكر أبو عبد الله أحمد بن حنبل عليه أنه بلغني أن حسن البزار، وأبا نصر وغيره عزموا على أن يجيؤوا بكتاب المدلسين الذي وضعه الكرابيسي يطعن على الأعمش فيه وسليمان التيمي، فمضيت إلى الكرابيسي في سنة أربع وثلاثين، فقلت له: إن كتاب المدلسين يريد قوم أن يعرضوه على أبي عبد الله فأظهر أنك قد ندمت عليه، فقال: إن أبا عبد الله رجل صالح يوفق مثله لإصابة الحق، قد رضيت أن يعرض عليه فيعلم لم وضعته، قد سألني أبو ثور أن أضرب على الكتاب فأبيت، فقلت: بل أزيد فيه، فجيء بالكتاب إلى أبي عبد الله، وأبو عبد الله لا يعلم لمن هو فعلموا على المستبشعات من الكتاب وموضع فيه وضع على الأعمش، وفيه: إن زعمتم أن الحسن بن صالح كان يرى السيف فهذا ابن الزبير قد خرج، فقال أبو عبد الله: هذا أراد نصرة الحسن بن صالح فوضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع للروافض أحاديث في هذا الكتاب، فقال له أبو نصر: إن فتياننا يختلفون إلى صاحب هذا الكتاب، فقال: حذروا عنه، ثم انكشف أمره فبلغ الكرابيسي، فقال: لأقولن مقالة حتى يعمل ابن حنبل بخلافها فيكفر، فقال: لفظي بالقرآن مخلوق، فقلت لأبي عبد الله: إن الكرابيسي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق من كل الجهات إلا أن لفظي بالقرآن مخلوق، ومن لم يقل: إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، فقال أبو عبد الله: بل هو الكافر، قاتله الله، وأي شيء قالت الجهمية إلا هذا، قالوا: كلام الله، ثم قالوا: مخلوق، وما ينفعه، وقد نقض كلامه الأخير كلامه الأول حين قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ثم قال: ما كان الله ليدعه وهو يقصد إلى التابعين مثل الأعمش وغيره يتكلم فيهم. مات بشر المريسي وخلفه حسين الكرابيسي.

انتهى كلام الذهبي.

وهذه الرواية تفيد عدة أمور:

أولها: أن جواب ابن حنبل على الكرابيسي في مسألة اللفظ، لم تكن السبب التي أوقعت البغضاء بين الشيخين الكرابيسي وابن حنبل، بل هناك مسألة أخرى أنشأت هذا الخلاف، وهي مسألة دفاع الكرابيسي عن الحسن بن صالح بن حيّ، ونقد الكرابيسي للشيخين الأعمش وسليمان التيمي في وقيعتهم فيه لهذا السبب.

وثانيها: قول الراوي أن الكرابيسي طعن في الأعمش والتيمي بسبب تبديعهم لابن حيّ، وكما نرى، ليس هناك طعن، بل هو تعقّب واستدراك، فهو يقول: "إن قلتم أن ابن حيّ يرى السيف، فهذا ابن الزبير قد خرج" بمعنى إن كان هذا السبب هو سبب وقيعتكما فيه، وطعنكما عليه، فيتوجّب هنا أن تطعنا في ابن الزبير، لأنه طبق ذلك عملاً، أو تعتذرا له، كما اعتذرتم لابن الزبير. 

وثالثها: أن الكرابيسي كانت علاقته بابن حنبل، طيّبَة، ويدلنا على ذلك وصفه بالرجل الصالح، وكان يثق أوّل الأمر بعقله ورأيه، وهو يرى أنه لم يقل باطلاً في كتابه، إنما أراد الرجوع إلى الدليل والحكمة فيما وقع في شأن الحسن بن صالح بن حيّ، لا الركون إلى العواطف.

ورابعها: أن الحجج والبراهين التي قدمها الكرابيسي لم ترق لابن حنبل، وابن حنبل لم يعترض على صحة الأدلة مطلقاً، ولكنه قال: بأن جمعه لهذه الأدلة، يعرّف خصومهم الرافضة بها، فيأخذونها ويعتبرونها حجج للطعن في الصحابة، يريد بذلك: خروج بعض الصحابة على عثمان، وخروج الحسين بن علي وخروج أهل المدينة وخروج ابن الزبير.

فابن حنبل وكأنه يقول: صحيح بعض الصحابة فعلوا مثل ابن حيّ، ولكن لا ينبغي أن ننقد الصحابة ويجوز نقد غيرهم، مثل ابن حيّ؟! 

طبعاً في نظري، أن الكرابيسي، أيضاً بدوره لم يعترض على نقد ابن حي في إجازته الخروج على حكّام الجور، ولا أنه كان يستصوب قوله، وإنما أنكر أن يبدّع ويهجر لرأيه هذا!

والدليل على ذلك، أنه لا ابن حنبل ولا أحد من أصحابه أو تلامذته، قالوا بأن الكرابيسي كان يرى السيف على أمة محمد، ولو قالها لاستغلوها في الطعن فيه وإسقاطه. 

والحقيقة أن وصف ابن حي ومن شاكله بالخارجي، فيه تجاوز، لأن الرجل ليس على عقيدة الخوارج ومنهجهم، بل هو سُنّي، ولكن ما وقع منه زلَّة واجتهاد خاطئ، وهناك وصف شرعي يليق به، وكان من المفترض أن لا يتجاوزه أئمة الحديث وهو الباغي، لأن الخوارج قومٌ لهم مسلك وحكم خاص، والباغي له مسلك وحكم خاص، ووصف بعضهما بوصف الأخر، يجعل الخطأ وارد في الحكم عليهم، فيعطى الباغي حكم الخارجي ويعطى الخارجي حكم الباغي، فيختلط الحابل بالنابل.

وقد خرج أئمة كبار من الصحابة ومن التابعين وغيرهم، ولا نجد أحداً من أئمة الحديث المتقدمين بالعراق طعن فيهم! مثل الصحابة الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان، والحسين بن علي، وأهل المدينة عندما خرجوا على يزيد، وسعيد بن جبير، والقراء عندما خرجوا على عبدالملك بن مروان، فإن أُعتذِر لهؤلاء، ولم يبدعوا ولم يُهجروا، فلماذا لم يعتذروا لابن حي؟! فالرجل أخطأ، ولا شكّ في ذلك، ولكن مسألة أن يعادى ويحارب لأجل رأيه هذا، من دون الناس فهذا هو الأمر العجيب. 

وخامسها: أن المروذي وأبو ثور وابن عقيل وحبيش، كانوا يعلمون أن ما في الكتاب لا يُرضي ابن حنبل، لذلك طلبوا منه أن يضرب على هذا من كتابه، ولكنه أبى، بحجة أن ابن حنبل ليس كباقي الناس، بل هو عنده – إذ ذاك - رجل صالح وحكيم، ولا بد أنه عندما يرى ما في كتابه من الحجج والبراهين، أنه لن يعترض عليها، بل سوف يستصوب ما فيه، ولكن الأمر وقع بخلاف ما كان يظنّ. 

كما أنه ورد في خبر ابن رجب زيادة مفادها أن ابن عقيل وحبيش كانا أيضاً ممن طلب من الكرابيسي الضرب على ما لا يروق لابن حنبل من كلامه في الكتاب، وهذان الشخصان لم يردا في خبر الذهبي، مع أن الذهبي أسند الخبر الذي رواه عن الخرقي، بينما ابن رجب لم يسنده، فهل نسي الخرقي، أم أُقحم اسم هذين الرجلين في الخبر، للاستكثار من النقّاد على الكرابيسي؟! 

الله أعلم. 

وسادسها: أن في هذا الخبر زيادة، لم ترد في رواية الخطيب البغدادي، وهي قول الراوي: "فبلغ الكرابيسي، فقال: لأقولن مقالة حتى يعمل ابن حنبل بخلافها فيكفر، فقال: لفظي بالقرآن مخلوق". 

وهذا يتعارض مع ما ورد في وراية الخطيب، حيث نص على أن الكرابيسي طُرح عليه سؤال من أحدهم عن قوله في القرآن، ثم طرح عليه سؤالاً أخر عن قوله في لفظه بالقرآن، وهذا يدل على أن الكرابيسي لم يقل هذه المقالة نكاية في ابن حنبل، بل إجابة على سؤال سائل. 

ثم ما أدرى الكرابيسي أن هذه المقالة تحرج ابن حنبل وتغيضه من الأساس، مع أنهم يقولون بأن الكرابيسي هو أول من قال بهذه المقالة.

هذه الشواهد، ترجّح أن هذه الزيادة في خبر الخرقي باطلة، وأنها مقحمة للوضع على الكرابيسي. 

والله أعلم.

وسابعها: أن قول الكرابيسي: "القرآن كلام الله غير مخلوق من كل الجهات إلا أن لفظي بالقرآن مخلوق" يبيّن بوضوح عن مذهب الكرابيسي في القرآن وفي اللفظ به بياناً شافياً كافياً، لا غبار عليه.

فقوله من كل الجهات، يُراد به: الصوت والحروف والكلمات والجمل والمقاطع، هذه كله كلام الله غير مخلوق عند الكرابيسي، وأنه اختصر الخلق في لفظ المخلوق، الذي هو كلامه وفعله. 

وهذا يدل على أن الكرابيسي لم يكن يقول بمقالة الجهمية في أن القرآن مخلوق كما يزعم بعض الباحثين، ولا أنه أراد بقوله لفظي بالقرآن مخلوق التوصّل إلى القول بخلق القرآن، بل كان مقرأ أن القرآن الذي تكلّم الله به بصوته كلّه غير مخلوق، الصوت والحرف والكلمة والجملة والمقطع، كله غير مخلوق، المخلوق عند الكرابيسي، هو لفظ المخلوق به فقط.

لأن لفظ المخلوق أي: كلامه وصوته، مجرّد آلة فقط، لنقل كلام الله تعالى. والآلة لا شك أنها مخلوقة. 

وهذا يبيّن أن اللفظيَّة ليسوا جهميَّة، وأن من أقحمهم في الجهميَّة فقد أخطأ.

وهذا النص أيضاً يدلنا على حقيقة مذهب ابن حنبل في مسألة اللفظ، مع أدلة أخرى.

فقد روى الخلال في السنة قال: أخبرني حنبل بن إسحاق بن حنبل بواسط، قال: سمعت أبا عبد الله، يقول: "الجهمية على ثلاث ضروب: فرقة قالوا: القرآن مخلوق، وفرقة قالوا: كلام الله، وتقف، وفرقة قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، فهم عندي في المقالة واحد".

إذاً ابن حنبل، عندما أنكر القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق، لم يكن يعني بإنكاره على اللفظية، اعتقاده أنهم يريدون بذلك التوصُّل إلى القول بخلق القرآن وأن ابن حنبل يعتقد بأن ألفاظ العباد بالقرآن وبغير القرآن مخلوقة، بل كان يعني أن لفظ العبد نفسه، بالقرآن لا ينبغي أن يقال عنه مخلوق. 

فثبوت براءة الكرابيسي من القول بخلق القرآن، وأنه اقتصر على لفظ المخلوق فقط، ثم رواية الخلّال عن ابن حنبل، أنه جعل اللفظية قسم جهمي ثالث، بمعزل عمّن يقول بأن القرآن مخلوق .. يفيد ذلك.

إذاً ما مذهب ابن حنبل في مسألة اللفظ؟

مذهبه باختصار، هو الوقف والتفويض. فلا تقول مخلوق ولا غير مخلوق!

إذا ماذا يكون؟ 

إنه لا يعلم!

ويدلك على ذلك، أنه لما سئل عمن يقول لفظي بالقرآن مخلوق، قال: جهمي. ولما سئل عمن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق، قال: مبتدع.

حسناً: ما الجواب يا إمام أحمد؟ 

الجواب: هو الوقف والتفويض.

وطبعاً الوقف والتفويض ليس جواباً، بل هو عجز عن الجواب.

لأن المسألة لا تحتمل الوقف والتفويض، إلا عند من يعجز عن الجواب عليها، فإما أن يقول بأن اللفظ مخلوق أو غير مخلوق، أو يقف ويقول لا أعلم.

حسناً يا إمام أحمد: لماذا وقفت في مسألة اللفظ والملفوظ.

قال: لأنها مسألة لم يخض فيها الصحابة والتابعون!

حسناً يا إمام أحمد: أنت لما وقف الواقفون في مسألة القرآن، وهل القرآن مخلوق أو غير مخلوق، للتعبير عن عجزهم عن الجواب في هذه المسألة، لم ترضى ذلك منهم، بل إنك جهّمتهم، بل قلت بأنهم شرٌّ من الجهميَّة! فلم تقبل منهم الوقف، مع أنها مسألة لم يخض فيها الصحابة والتابعون، أيضاً!

وأي فرق هنا بين وقفك أنت في اللفظ والملفوظ، وبين وقف من وقف في القرآن نفسه، إن كان الخلاف عندك واحد، كما قلت، فأنت ترى أن من قال لفظي بالقرآن مخلوق هو مثل من يقول بأن القرآن مخلوق.

بل إنك وصفت من وقف في القرآن بأنهم ليسوا واقفة بل شكّاكة، كما في رواية الخلّال عنك. 

ومذهبك في اللفظ والملفوظ لا يدل إلا على الشكّ والحيرة. 

فإن كان من وقف في القرآن، لا يعلم هل هو مخلوق أو غير مخلوق، فأنت نفيت أن يكون اللفظ مخلوق أو غير مخلوق، وبالتالي أنت لا تعلم هل هو مخلوق أو غير مخلوق، وهذا شكّ.

الحق حق، ماذا أصنع أنا؟!

وكيف استجزت تجهيم الكرابيسي ونعيم، ولعنهم والدعاء عليهم، إن صحّ ذلك عنك، وتسببت في ما وقع للبخاري من محنة، وحشرت كل من يقول باللفظ في زمرة الجهمية - مع كونهم يقولون بأن عين كلام الله الذي هو صوته غير مخلوق من جميع الجهات - وأنت لا تدري ما جواب هذه المسألة؟! فما أدراك أنهم أصابوا الحق فيها، وقد أصابوه بإذن الله تعالى؟!

وهنا تكتشف أن المسألة مجرّد رأي، لا أكثر!

ثم تعجب، كيف صارت السُنّة في مسألة القرآن أن تقول غير مخلوق، والسنة في اللفظ أن تقف وتفوِّض المسألة!

لتُدرك تماماً أن السنة لم تعد قول النبي صلى الله عليه وسلم، بل السنة صارت هو ما يراه ابن حنبل.

وهذا له سبب.

ذلك أن ابن حنبل لما وقعت محنته مع المأمون والمعتصم والواثق، وما تعرّض له من السجن ثم الجلد، ثم المحاصرة، وصبره على ذلك كله، وتمسّكه بقوله. 

وقد كان متمسكاً بالحق ولا شك في مسألة القرآن، لأن الجهمية الذين سجنوه وجلدوه وحاصروه كانوا يقولون بأن القرآن بكل الجهات مخلوق، لأن كلام الله عندهم وعلمه مخلوقان. ولم يقولوا باللفظ فقط، وهو موقف عظيم، عَظُم في أعين الناس. 

والناس مجبولون على تعظيم وإجلال من يقف في وجوه الحكّام والسلاطين ويصبر لهم، ولذلك لما وقعت محنته رحمه الله ورضي عنه وصبر لها في الحق، عظَّمه أصحابه وتلاميذه تعظيماً زائداً، حتى صاروا يصدرون عن قوله، والقوا جميعهم أزمتهم إليه، فكان أحدهم يرى ما يقوله ابن حنبل في المسألة فيأخذ بها دون نقاش، وإن خالف مخالف ابن حنبل بدعوه وهجروه واقصوه.

ولذلك نجد في خبر كتاب المدلسين أن بعضهم أراد أن يعرض هذا الكتاب على ابن حنبل، وما معنى أن يعرضه على ابن حنبل خاصَّة، لماذا لم يعرضه على غيره؟! وتجد الرجل يأتي من أقاصي البلاد، فلا يسأل أحداً من خلق الله إلا ابن حنبل، إذا ابن حنبل صارت له مزيَّة عند الناس ومكانة لا يحظى بها أحدٌ غيره.

ويدلك على ذلك أيضاً، ما رواه أبو القاسم في كتابه الحجة، قال: قال أبو حاتم الرزاي: "من كلام جهم بن صفوان، وحسين الكرابيسي، وداود بن علي: أن لفظهم القرآن مخلوق، وأن القرآن المنزل على نبينا - صلى الله عليه وسلم - مما جاء به جبريل الأمين حكاية القرآن، فجهمهم أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل، وتابعه على تجهيمهم علماء الأمصار طرا أجمعون، لا خلاف بين أهل الأثر في ذلك".

فانظر إلى أبي حاتم الرازي، كيف أنه أسند الحكم إلى ابن حنبل.

فكل من أراد أن يُفتي في هذه المسألة يقول: قال أبو عبدالله، أو قال ابن حنبل .. وهكذا.

بل صار من أراد أن يعلو فعليه أن لا يخالف ابن حنبل، وهذا ما دفع المروذي وأبو ثور إلى تنبيه الكرابيسي وتحذيره، ومحاولة ثنيه عن بعض ما ورد في كتابه، حتى لا يسقطه ابن حنبل، وهذا ما وقع بالفعل.

وقد روى الخطيب البغدادي عن مُحَمَّد بن عَبْد اللَّهِ يخاطب المتعلمين لمذهب الشَّافِعِيّ، ويقول لهم: اعتبروا بهذين، حسين الكرابيسي، وأبي ثور، والحسين فِي علمه وحفظه، وأبو ثور لا يعشره فِي علمه، فتكلم فيه ابن حنبل فِي باب اللفظ فسقط، وأثنى عَلَى أَبِي ثور فارتفع للزومه السنة.

لماذا صار ابن حنبل هو معيار لتقييم الرجال؟ الجواب: هو تعظيم الناس له، بسبب وقوفه في وجه الحكام، وصلابته في رأيه أمامهم.

ولا يأتي أحد ويقول: إنما رفعه الله بلزومه السُنَّة، فالسُنَّة ترفع صاحبها في الآخرة، وأما في الدنيا، فقد رأينا الكثير لزموا السُنَّة وهم مغمورون، وبعضهم أذلّه الحكام وذوو السُلطة، ورأينا الكثير لم يلزموا السُنَّة وبعضهم عامّيّون، جابهوا الحكام، وصبروا لهم، فارتفعوا عند الناس، وعظمت منزلتهم.

وأما أبو ثور، فقد لحقه من ابن حنبل ما لحق الكرابيسي بسبب كلامه في الصورة، مع أن ابن حنبل كان يثني عليه سابقاً، فأسقطه وألحقه بالكرابيسي. 

والحق في تلك المسألة مع ابن حنبل، لأن الأدلة الشرعية واللغوية والعقلية تؤيد قول ابن حنبل.

هل رأيتم أني منصف وحقّاني، وأتّبع الدليل، وأني غير متحامل على ابن حنبل، أنا لا أبحث سوى عن الدليل، من وجدت معه الدليل سوف اتبعه، وإن خالفه الناس جميعاً.

فقد قال عن أبي ثور، لما ظهر منه القول في الصورة، هذا جهمي لا تقربوه، وقال: لا تجالسوه، وقال: لا تؤذوني بمجالسته. 

روى ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة عن الفضل بن نوح، أنه قال: قلت لأحمد: أريد الخروج إلى الثغر، وإنّي أسأل عن هذين الرجلين: عن الكرابيسى، وأبى ثور؟ فقال: احذرهما.

وروى ابن أبي يعلى نقلا عن أبي بكر بن الخلال، عن يعقوب بن ابراهيم الدورقى قال: سألت ابن حنبل عن أبى ثور، وحسين الكرابيسى؟ فقال: متى كان هؤلاء من أهل العلم؟ متى كان هؤلاء من أهل الحديث؟ متى كان هؤلاء يضعون للناس الكتب؟

والعجيب أن ابن حنبل يقول عن أبي ثور هذا القول، وقد روي عنه سابقاً، أنه قال: أَعْرِفُهُ بِالسُّنَّةِ مُنْذُ خَمْسِيْنَ سَنَةً، وَهُوَ عِنْدِي فِي مِسْلاَخِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وسُئِلَ ابن حنبل عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ لِلْسَّائِلِ: سَلْ غَيْرَنَا، سَلِ الفُقَهَاءَ، سَلْ أَبَا ثَوْرٍ. فكيف يستنكر الآن أن يكون أبو ثور من أهل العِلم، ومن أهل الحديث، ويستنكر عليه وضع الكتب؟!

فما إن اخطأ أبو ثور هذا الخطأ، حتى انقلب رأي ابن حنبل فيه، فصار بدل أن يكون سُنّيَّاً وفي مسلاخ سفيان الثوري ومن الفقهاء، وإذ به لا يعرفه من أهل العلم ولا يعرفه من أهل الحديث ولا يحق له أن يضع الكُتُب للناس!! 

وسوف يمرّ معنا ما قاله ابن حنبل في حق الكرابيسي.

ولو شئنا أن نطبّق منهج الإمام أحمد على نفسه، لجهّمناه هو الأخر، فهو نفسه تأول آية مجيء الله تعالى يوم القيامة، بتأويل الجهميَّة.

قال حنبل بن إسحاق، في كتابه المحنة: "وسمعت أبا عبدالله يقول، واحتجوا علي يومئذ، قالوا: تجيء البقرة يوم القيامة وتجيء تبارك. قلت لهم: إنما هذا الثواب، قال الله: (وجاء ربك والملك صفا صفا) إنما تأتي قدرته.

فابن حنبل هنا يتأول مجيء الله يوم القيامة، بمجيء قدرته فقط، وهذا باطل، فمجيء الله يوم القيامة مجيء بذاته، كما صرَّحت بذلك السُنَّة، والآية الكريمة، ظاهرها وباطنها في معاني العرب لا يدل إلى على مجيء الذات، لأن العرب لا تقول: جاء فلان، وتريد بذلك مجيء قدرته أو أمره أو رحمته أو غير ذلك من صفاته. ولا يعلق في ذهن العربي، أنه إذا قيل له: جاء فلان. أنه ربما الذي جاء ليس شخصه بل يمكن أن يكون قدرته أو أمره أو رحمته. هذا لا يطرأ على بال العربي بحال. وادعاء المتكلمين، أن العرب تقول جاء الملك، ويريدون بذلك جاء أمره، كذب محض وتحريف وتلبيس وتدليس، هذا ادعاء لا تعرفه العرب، يقول ذلك من هو أعلم بالعرب ولغتهم من غيرهم، كونه منهم وفيهم وعاش في وسطهم، وفي مهد بلادهم الأول بالحجاز ونجد.

ويرى البعض أن ابن حنبل تاب من هذا القول، لما ورد في رواية أبي طالب عنه، التي رواها أبو يعلى في إبطال التأويلات، حيث قال ابو يعلى الحنبلي: وقد قال أحمد في رواية أبي طالب: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} {وجاء ربك والملك صفا صفا} فمن قال أن الله لا يرى فقد كفر، وظاهر هذا أن أحمد أثبت مجيء ذاته، لأنه احتج بذلك على جواز رؤيته، وإنما يحتج بذلك على جواز رؤيته إذا كان الإتيان والمجيء مضافا إلى الذات.

ولكن الحقيقة أنه لا يعرف أي القولين هو الناسخ للآخر، إنما هو ظنّ، ونرجو أن الإمام أحمد حقّاً قد رجع عن تأويله الباطل لصفة المجيء، إلى الصواب.

بل إن ابن حنبل عنده مخالفات عقدية خطيرة أخرى، وهي خطأه في مسألة القَدَر، فمذهبه فيها هو أن العبد مجبول!

ولمن لا يعرف ما معنى مجبول، فالمجبول أخو المجبور، ولكن بني المجبول والمجبور اختلاف يسير ليس هذا موضع بيانه.

والشاهد من ذلك كله، هو أنه لا يعني أن رجلاً أخطأ في مسألة من مسائل الصفات أنه يجهّم أو ينبذ ويطرح ويحذّر منه، كما فعل الشيخ ابن حنبل بالكرابيسي، بل يُحذَّر من بدعته، كما نحذّر نحن اليوم من بدعة الشيخ ابن حنبل في القدر، وخطئه في تأويل صفة المجيء، وما أخطأ فيه من مسائل أخرى. ولكن لا نحذر منه ولا ننبذه ولا نطرحه، دام أن اصوله في النلقي هي أصول أهل الحق، وهي تلقي العلم الشرعي من الكتاب والسنة بفهم العرب الأمّيّين. 

ثم قول الإمام أحمد بمجيء البقرة وتبارك بمجيء ثوابهما، هو تأويل، قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً. ليس هناك دليلٌ على صحة تأويله، سوى أنه "يرى" ذلك.

والراجح أن تأويله خاطئ، وأن الذي يجيء ليس ثواب البقرة أو تبارك. بل إن الله تعالى، يخلق خلقاً يُعبِّر به عن سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة تبارك، بل وخلق يعبِّر عن القرآن كُلِّه.

والدليل على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر، أن البقرة وآل عمران، تُحاجان عن صاحبهما، وأن القرآن يقول: بلسان طلق: يا ربِّ حلِّهِ، فَيلبسُ تاجَ الكَرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا رَبِّ زِدهُ، فيلبسُ حلَّةَ الكرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا ربِّ ارضَ عنهُ، فيقالُ لَهُ: اقرأْ وارْقَ، وتزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً.

وهذا مثل الحسنات، التي هي أعمال العباد الصالحة، يخلق الله لها خلقاً يُعبِّر عنها، لتوضع في الموازين، والحسنات هي الثواب بعينه، فدلّ هذا على بطلان تأويل ابن حنبل.

وعلى كلٍّ فالحق في مسألة الصورة مع ابن حنبل، وأبو ثور غفر الله له ورحمه مخطئ، ولكن لا أرى أن ابن حنبل أصاب في تجهيمه لأبي ثور وهجره، كما أنه لم يصب في تجهيم الكرابيسي وهجره.

وقد بعث إلي أحدهم بأسماء كثيرة لجماعة من أئمة الحديث كلهم وافقوا ابن حنبل في تجهيم الكرابيسي، والحقيقي أن جميعهم من أصحابه وتلامذته، الذين لا يصدرون إلا عن قوله.

وهذا يشبه ما يقوم به البعض اليوم، عندما نجرح أحد أئمة المتكلمين، تجده يأتيك بقائمة طويلة تحتوي على أسماء العديد من العلماء المنسوبون إلى السنة ومنهج السلف يثنون عليه، ثم يلزمونك بناء على هذه القائمة بالثناء على هذا المبتدع، وعدم تبديعه!! 

فهؤلاء يأتونك بقائمة طويلة من الأسماء لبعض العلماء في ذلك الزمان، ممن اتخذ من ابن حنبل إماما وقدوة، ويقولون: هؤلاء كلهم وافقوا ابن حنبل على تجهيم الكرابيسي، فهذا دليل على إصابة ابن حنبل في تجهيمه له، وعلى إصابة ابن حنبل على فساد هذا القول، وهو القول بان لفظي بالقرآن مخلوق.

وهذا ليس دليلاً على صحة قول ابن حنبل.

فكون هناك الكثير من العلماء وافقوا ابن حنبل، فهذا لا يعني بالضرورة أن الكرابيسي على باطل، كما أنه لا يعني أن تكون الكثرة على الحق دائماً.

ثم هؤلاء الكثرة الكاثرة، لماذا لم يجهموا ابن حنبل عندما تأول حديث مجيء الله يوم القيامة، بتأويل الجهميَّة؟! ما معنى أنهم كلهم سكتوا عن ذلك؟! 

فإن ما قاله الإمام أحمد في ذلك المجلس، من تأويل المجيء بمجيء القدرة، سوف ينتشر في الآفاق، وحتى تبلغهم توبته، يحتاجون إلى وقت طويل، فلو نقده ناقد، أو طعن فيه لقوله هذا، سوف ينتشر هذا النقد والطعن في الآفاق، وتتناقله الألسن والكتب، وسوف يكون له أثر في التراث الإسلامي، ولكن هذا لم يقع، وهو دليل على أن الإمام أحمد لم يُنتقد على هذا التأويل الخاطئ.

الجواب: لأنهم في الأساس ما جهموا الكرابيسي ونعيم والبخاري إلّا تقليداً لابن حنبل، وأنهم تبعٌ لابن حنبل في كل ما يقوله ويفتي به، دون نقاش أو تثبّت، فهو عندهم أصبح المُتَّبع.

ولا يفوتني أن أنبه هنا على رواية رويت عن إسحاق بن إبراهيم الحربي، أحد أصحاب ابن حنبل، في رسالة بأن القرآن غير مخلوق لمؤلف مجهول، أنه قال: قال: كنت جالسا عند ابن حنبل إذ جاءه رجل فقال: يا أبا عبدالله، إن عندنا قوما يقولون: إن ألفاظهم بالقرآن مخلوقة. فقال ابن حنبل: "يتوجه العبد بالقرآن إلى الله لخمسة أوجه كلها غير مخلوقة، حفظ بقلب، وتلاوة بلسان، وسمع بآذان، ونظر ببصر، وخط بيد، فالقلب مخلوق والمحفوظ غير مخلوق، والتلاوة مخلوقة والمتلو غير مخلوق، والنظر مخلوق والمنظور إليه غير مخلوق.

فهذه الرواية يظهر لي أنها باطلة، وموضوعة على ابن حنبل، لتفرد هذا الراوي المجهول بروايتها، ثم هي مخالفة لمذهب ابن حنبل المروي عنه، في عدم إطلاق صفة الخلق على التلاوة والتي هي لفظ المخلوق، فكما مرّ معنا، وفي روايات كثيرة عنه، أن ابن حنبل ينكر ويجهم من يقول بأن لفظه أي تلاوته بالقرآن مخلوقة، وهذه الرواية تتعارض مع تلك الروايات.

ثم هي تنص على أن الكلام عند ابن حنبل ليس صوتاً وحسب، بل هو حديث نفس، كما في قوله "والمحفوظ غير مخلوق" وكذلك صورة ترى بالأعين كما في قوله: "والمنظور إليه غير مخلوق"!

وهذا باطل من وجوه:

أولها: أن الكلام هو الصوت، والأحرف هي ما يصدره الصوت من أصوات بطبقات ومخارج شتى. فالكلام ليس حديث نفس، وليس صورة ترى بالعين، وهذه مسألة أثبتها في كتابي: صفة الكلام لله عز وجل، ومسألة خلق القرآن ومسألة اللفظ والملفوظ. 

وثانيها: أن كلام الله الذي هو صوته سبحانه، وما يصدر عنه من حروف وكلمات وجمل ومقاطع، من أفعاله، وفعله صفة من صفاته، وكذلك علمه، صفة من صفاته، وهذا ينبني عليه أمران:

الأول: أنه لا يمكننا رؤية الله تعالى، في الدنيا، وبما أن فعل الله وعلمه صفة من صفاته، فلا يمكننا رؤيتها بالعين في الدنيا، وهذا إبطال لقول ابن حنبل، في هذه الرواية، بأنه يمكننا أن نرى صفة من صفات الله تعالى.

الثاني: أن صفات الله لا تحل ولا تمتزج بالمخلوقين، ولا بصفاتهم، ولا تلغي صفة المخلوق وتحلّ محلّها، وبالتالي، يستحيل أن نقول بأن عين كلام الله تعالى حلّ في ذاكرتي، أو حلّ في المِداد وورق المصحف، أو حلّ في صوتي وكلامي.

وخلاصة هذه المسألة، أن ألفاظنا بالقرآن وما نحفظه في صدورنا والمداد والورق الذي نكتب به القرآن، لا يخلو من أن يكون إما مخلوقاً أو غير مخلوق، وليس هناك حالة ثالثة البتَّة.

فإن لم يكن لفظي بالقرآن، وأعني به هنا كلامي الذي هو صوتي، وما أحفظه في صدري من القرآن والمداد والورق الذي أكتب به القرآن مخلوقاً، فبالتالي لا مناص من القول بأنه مخلوق.

وهنا يقع التمايز بين ما هو مخلوق وما هو غير مخلوق.

فالله صوته وما يصدر عنه من حروف وكلمات وجمل ومقاطع ليست مخلوقة، فكلام الله من فعله، وفعله من صفات ذاته، وذات الله وصفاته ليست مخلوقة. فبالتالي القرآن ليس مخلوقاً.

ولكن صوتي به وما أحفظه في صدري منه والمداد والورق الذي أكتبه به، مخلوق ولا بدّ. وهذه مجرد وسائل لقراءة كلام الله تعالى الغير مخلوق وحفظه ونقله.

والآن سوف نستعرض أدلة ابن حنبل، في احتجاجه على بطلان قول من يقول: لفظي بالقرآن مخلوق.

روى الخطيب عن الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ أنه قَالَ: وَسَأَلْتُ أَبَا عبد الله عن الكرابيسيّ وما أظهره، فكلح وجهه ثم أطرق، ثم قَالَ: هذا قد أظهر رأي جهم. قَالَ اللَّه تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة 6] فممن يسمع. وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فله الأمان حتى يسمع كلام اللَّه» إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وأقبلوا عَلَى هذه الكتب.

انتهى كلامه.

والجواب: يسمعه من الرجال بأصوات الرجال المخلوقة، وليس بصوت الله الغير مخلوق.

والكلام ينسب إلى قائله ابتداء، لا إلى قارئه أو ناقله، فالقرآن انشأه الله ونظمه وابتدأ الكلام به، ونحن نقرأه وننقله بكلامنا أي: أصواتنا، فعندما نسأل هذا كلام من؟ نقول: هذا كلام الله. نريد بذلك أن الله هومن أنشأه ونظمه وابتدأ الكلام به، لا أن كلامنا أي: أصواتنا التي نقرأ بها القرآن هي عين كلام الله تعالى. فكلام الله صفة من صفاته، ولا يمكن لنا في هذه الدنيا أن نسمع أو نرى صفة من صفات الله تعالى، في اليقظة تحديداً، وإلا ففي المنام فجائز ذلك، والله أعلم. ولا يمكن أن تحلّ صفة من صفات الله تعالى في صفة من صفاتنا، أو تمتزج بها، أو تلغيها وتحلّ محلّها.

ولأبي القاسم الأصبهاني حجة غريبة في هذا الباب حيث يقول في كتابه الحجة:

""فهذا هو الأصل في أن اللفظ بالقرآن هو القرآن لأن الجن إنما سمعوا لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقراءته وتلاوته وقالوا: أنا سمعنا قرآنا عجبا. ولو لم بلفظ به ما سمعوا قراءته فلما سمعوا قراءته قالوا: أنصتوا، ولم يقل يستمعون حكاية عن القرآن، ولا قال فيما سمعوا حكاية القرآن، ولكن بين تعالى وتبارك أن لفظ نبيه بالقرآن هو القرآن وقراءته للقرآن هو القرآن، وكلامه بالقرآن إنما هو كلام الله عز وجل."

لأن القرآن لغة، هو كل شيء يقرأ، أي: يُتلى، فكل ما قُرِئ فهو قرآن، ولذلك سُمي المصحف قرآناً، لأنه يحتوي على ما يُقرأ، لا أن المِداد والورق هو القرآن! 

وسمى الله كلامه قرآناً، لأنه يقرأ، أي: يُتلى، 

فالقرآن صفة لهذا الكلام لأنه يقرأ.

فمراد الجن من قولهم: "إنا سمعنا قرآنا عجبى" أي: كلاماً يُتلى عجيب في إنشائه ونظمه وتلاوته ومعانيه.

هم لا يعلمون هذا القرآن ما هو ، فهو ليس من جنس ما يُقرأ من كلام البشر، إذا هو ليس قرآنا بشرياً، ليس شعراً ولا نثراً، مما ينشئه الناس وينظمونه ويتكلمون به ويقرأونه، هو فريد من نوعه، وقد علموا أن هذا القرآن كلام الله تعالى، مما سمعوا من الكلام المقروء، وهنا آمنوا به.

وهم طبعاً لن يقولوا: بأنهم سمعوا حكاية القرآن، لأن هذا لا تقوله العرب، بل لا تقوله جميع الشعوب، في الإشارة إلى ما يسمعون من الكلام المقروء، مع أنهم فيما بينهم، يعلمون يقيناً أن ناقل الخبر مجرد حاكٍ له فقط.

وجميع الروايات التي رويت عن أصحاب ابن حنبل في الاحتجاج على أن لفظ العباد بالقرآن غير مخلوقه، بدعوى أن الإنس والجن يشيرون إلى القرآن على أنه كلام الله وكلام ربهم، فالرد عليهم هو ما قلته أعلاه.

والحجة الثانية التي احتج بها ابن حنبل على اللفظيَّة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس».

واحتجاجه بهذا الحديث لا يصحّ.

لان معنى حديث النبي: "لا يصحّ فيها شيء من كلام الناس من غير قراءة القرآن والدعاء والتهليل والتسبيح والتكبير والتحميد ونحو ذلك. 

لأن الدعاء والتهليل والتسبيح والتكبير والتحميد، ليس من القرآن، بل هو من كلام الناس الذي يقولونه ليتقرّبوا به إلى الله تعالى. 

فهل سوف يقول ابن حنبل، أن دعاء الناس لربهم وتهليلهم وتسبيحهم وتكبيرهم وتحميدهم، من كلام الله تعالى!!

وقال عبدالله بن حنبل: سئل أبي وأنا أسمع، عن اللفظية، والواقفة، فقال: «من كان منهم جاهلا فليسأل وليتعلم»،

انتهى كلامه.

وأقول: سألوك عن اللفظ يا إمام أحمد فلم يكن عندك جواب، بل وقفت، مع أنك زعمت أن من توقف في القرآن بأنه جهمي بل شرٌّ من الجهمي، بل قلت عن اللفظية بأنهم شر من الجهمية أيضاً، أفكان من يقول في اللفظ بالوقف خيرٌ منهم، عجيب!!

وهناك حجة أخرى لبعض علماء الحديث في الرد على الجهمية وليس اللفظية، هي الأخرى حجة واهية، وضعيفة، أذكرها هنا للفائدة فقط.

حيث روى عبدالله بن حنبل قال:

حدثني أبو جعفر ابن حنبل بن سعيد الدارمي، قال: سمعت محمد بن أعين، سمعت النضر بن محمد، يقول: " من قال {إنني أنا الله، لا إله إلا أنا فاعبدني} [طه: ١٤] مخلوق فهو كافر، قال: فأتيت ابن المبارك فقلت له ألا تعجب من أبي محمد قال كذا وكذا؟ قال: وهل الأمر إلا ذاك، وهل يجد بدا من أن يقول هذا "

انتهى كلامه.

والجواب: سوف يرد الجهمي ويقول: الصوت مجرد آلة لنقل ما يريد أن يبلّغه الله تعالى لعباده، لإخبارهم بما يجب عليهم تجاه ربهم.

فالصوت يتكلم بالنيابة عن ربه.

كوزير أو كاتب يقرأ خطاب أحد الملوك لشعبه، فيقول وهو يقرأ خطاب الملك: أنا جلالة الملك زيد بن عبيد أمرت بما هو آتٍ، ثم يذكر عدة أوامر. 

فهل لأن الوزير أو الكاتب، يقرأ قوله: "أنا جلالة الملك" يصير مدّعياً للملك؟ أم يتحدث بالنيابة عن ملِكه؟!

الجواب: يتحدث بالنيابة عن ملكه، ولم يصر بقراءته لهذا الخطاب مدعياً للمُلك.

وتخيّلوا أن وزيراً أو كاتباً أو إخباريّاً قرأ خطاب ملِك بلاده في منصَّة أو نشرة أخبار، وإذ به يتفاجئ أن رجال الأمن يهجمون عليه، ويلقونه على وجهه، ويكبّلونه بالقيود، فيقول: ماذا صنعت؟ فيقولون: لقد أدعيت أنك الملك!! 

هذا لا يكون.

فكذلك عند الجهمية، الصوت – بزعمهم - يتكلم بالنيابة عن ربه، فلا يكون بذلك مدّعياً للربوبية.

وكذلك العباد، عندما يقرأون القرآن بأصواتهم المخلوقة، لا يكونون بذلك مدّعين للربوبيَّة، ولا تكون أصواتهم المخلوقة مُدَّعِيَةً للربوبية. 

ولو أنهما أثبت للجهمية بالأدلة الشرعية واللغوية والعقلية أن كلام الله تعالى صوت يسمع وحرف ينطق، لكان أفضل، لأنه يقطع به مقولهم في هذا الباب، ويثبت أن صوت الله تعالى ليس خلقاً من خلقه، بل صفة من صفات ذاته، وبالتالي لا يكون مخلوقاً، ويكون الله تعالى هو من يعبر عن نفسه، دون الحاجة إلى مخلوق يؤدي ذلك بالنيابة عنه، عندما تحدّث بالقرآن إلى جبريل.

ونأتي الآن إلى قاله أحمد بن حنبل وأصحابه وتلامذته في حق الشيخ أبي علي الكرابيسي رضوان الله عليه.

فمن أعجب ما قرأت فيما روي عن ابن حنبل في حق الكرابيسي، ما رواه ابنه عبدالله، أنه قال: سألته عن الكرابيسي حسين هل رأيته يطلب الحديث؟ فقال: «ما أعرفه وما رأيته يطلب الحديث»، قلت: فرأيته عند الشافعي ببغداد فقال: «ما رأيته ولا أعرفه»، فقلت: إنه يزعم أنه كان يلزم يعقوب بن إبراهيم بن سعد، فقال: «ما رأيته عند يعقوب بن إبراهيم ولا غيره وما أعرفه»،

طبعا هذه الرواية فيها تصويب لأخطاء وقعت في روايات أخرى، حيث ورد فيها أن الكرابيسي قال بأنه كان يناظر ابن حنبل عند يعقوب بن إبراهيم، وهذه الرواية تصحح هذا الخطأ، لأنها رواية عبدالله عن أبيه، ليس بينهما واسطة.

وقول ابن حنبل: "ما أعرفه" ثم قوله: "وما رأيته يطلب الحديث" وقوله: "ما رأيته عند يعقوب بن إبراهيم ولا غيره" قول مشكل!

كيف لا يعرفه، ثم يشهد بأنه ما رآه يطلب الحديث، ولا رآه يجالس يعقوب ولا غيره!!

لأنه بما أنه لا يعرفه، فهذا يعني أنه لا يعلم هل كان الكرابيسي يطلب الحديث أم لا، أو أنه كان يحضر عند يعقوب أم لا، لأنه لا يعرف شخصه، وإنما يسمع به.

وهذا يذكّرنا بما ذكرته سابقاً، بما قاله الإمام ابن حنبل في حق أبي ثور الكلبي، عندما قال عن أبي ثور والكرابيسي: "متى كان هؤلاء من أهل العلم؟ متى كان هؤلاء من أهل الحديث؟ متى كان هؤلاء يضعون للناس الكتب؟" وهو – أي ابن حنبل – الذي كان يصف أبو ثور قبل أن يقول مقالته في الصورة، بأنه يعرفه بالسنة منذ خمسين سنة وأنه في مسلاخ سفيان الثوري وأنه من الفقهاء، ثم فجأة أصبح لا يعرفه لا بعلم ولا حديث!!

فالشكّ حقيقة يقع على هذه الروايات، فإنك تستشعر أنها موضوعة على ابن حنبل من قِبل أناس بينهم وبين أبي ثور أو الكرابيسي عداوة مذهبيَّة، فهم يضعون الأخبار على ابن حنبل في الوقيعة في الكرابيسي وأبي ثور، لأنهم خالفوا إمامهم، لزيادة التنفير عنهم، وهذا أسلوب قد يتّبعه بعض السُقَّاط من المتعصّبين لمذاهبهم ومشايخهم، فإن التمذهب ما جرّ على الإسلام خيرا!

وأما إن صحّت هذه الروايات عن الإمام أحمد، فهذا أمر يدعو إلى الاستغراب!

وأعجب من ذلك – وهذه من المضحكات - ما رواه عبدالله بن حنبل عن أبي ثور، فقال: سألت أبا ثور إبراهيم بن خالد الكلبي عن حسين الكرابيسي، فتكلم فيه بكلام سوء رديء وسألته هل كان يحضر معكم عند الشافعي رحمه الله فقال: هو يقول لنا ذلك وأما أنا فلا أعرف ذلك أو نحو هذا من الكلام". 

وأقول: هذه عادة عرفناها من كثير من طلبة العلم، إذا قدح إمامهم المُتبع في شخص، قدحوا فيه، وأأتلفت قلوبهم على ذلك، وصاروا يشكون فيه ويشكّكون فيه. 

ولكن الله لم يمهل أبا ثور، حتى أوقعه في شرّ أعماله، فما لبث أن تحدث في الصورة، فجهّمه ابن حنبل، واقصاه، وحذّر منه، كما فعل بالكرابيسي!!

وإن كان الكرابيسي قد تحدّث في مسألة اللفظ والملفوظ بالحق، فإن أبا ثور تحدث في الصورة بالباطل، فسبحان الله العظيم.

وقد روى عبدالله بن حنبل، عن الحسن الزعفراني، أحد أصحاب الشافعي بالعراق، بمثل ما قال أبو ثور، فقال: "وسألت الحسن بن محمد الزعفراني، عن حسين الكرابيسي، فقال نحو مقالة أبي ثور، وقال لي حسن في اختلافه إلى الشافعي رحمه الله مثل قول أبي ثور".

واختلاف الكرابيسي للشافعي، لا يلزم منه معرفة أبي ثور والزعفراني بذلك، خصوصاً وأن الزعفراني كان شاباً في ذلك الوقت – حيث ذكر أنه كان يقرأ على الشافعي ولم ينبت شاربه - ولا يعرف الكرابيسي، فلم يتذكر شكله عندما كان يحضر عند الشافعي، بعدما عرفه بعد ذلك.

وكذلك أبو ثور ربما لم يكن يعرف الكرابيسي في ذلك الوقت، ولم يعرف الكرابيسي إلا بعد أن ارتحل الشافعي إلى مصر، بمدّة، فلم يتذكّر شكله.

مع أن الخطيب البغدادي روى بسنده عن أبي ثور أنه قال: "لما ورد الشافعي العراق جاءني حسين الكرابيسي، وكان يختلف معي إلى أصحاب الرأي، فقال: قد ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه فقم بنا نسخر به، فقمت وذهبنا حتى دخلنا عليه، فسأله الحسين عن مسألة، فلم يزل الشافعي يقول: قال الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أظلم علينا البيت، فتركنا بدعتنا واتبعناه".

فبناء على رواية الخطيب، كيف ينكر أبو ثور، معرفته بالكرابيسي، وجلوسه إلى الشافعي؟!

ولكن رواية عبدالله بن حنبل أوثق، لأنه ينقل عن أبي ثور مباشرة، ولذلك يظهر أن رواية الخطيب موضوعة، من وضع الشافعية، ليزداد الشافعي جلالة في صدور الناس.

بل إنهم صاروا يكيلون التُهم للكرابيسي بغير بيِّنَة واضحة.

فمن ذلك ما رواه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة، عن أبي طالب، صاحب ابن حنبل، أنه قال: "وقال أبو طالب: أخبرونى عن الكرابيسى أنه ذكر قول الله (٣:٥ ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾) قال: لو أكمل لنا ديننا ما كان هذا الاختلاف. فقال - يعنى أحمد بن حنبل - هذا الكفر صراحا".

وأقول: من الذي أخبر أبا طالب بأن الكرابيسي قال ذلك؟ أليس لهم اسماء؟ لماذا لم يفصح عنها كما جرت عادة المحدّثين في الإفصاح عن أسماء مخبريهم؟ لماذا لم يقل: قال فلان وفلان؟! 

أنا لا أتهم ولا أبرئ أبا طالب من الكذب على الكرابيسي، فكل شيء وارد، ولكن إن لم يكذب هو، فيتّضح من الخبر، أن أبا طالب لم يفصح عن أسماء من أخبره، لأنهم ليسوا ممن يوثق بروايتهم، وبما أنهم غير ثقات، لماذا استحل رواية هذا الخبر في حق الكرابيسي؟ والجواب: لأنه يبغضه، ولماذا يبغضه؟ لأن شيخه ابن حنبل يبغضه ويأمر بهجره، فهو وجد في هذا الخبر فرصته في الوقيعة في الكرابيسي وتنفير الناس عنه.

ولكني أقول: لو صحّ هذا الخبر عن الكرابيسي، فهو بلا شك كافر، لتكذيبه آية من كتاب الله تعالى، وإن مات على ذلك ولم يتب، فهو بإذن الله حطب جهنم.

ولكن الأمارات حقيقة تدل على كذب هذا القول.

ومن التهم التي وجّهت للكرابيسي، قول مسلمة بن قاسم في كتابه "الصلة" نقله عنه الذهبي في لسان الميزان: "كان الكرابيسي غير ثقة في الرواية، وكان يقول بخلق القرآن، وكان مذهبه في ذلك مذهب اللفظية، وكان يتفقه للشافعي، وكان صاحب حجة وكلام".

وقارن قول مسلمة هذا، وبين قول الجرجاني في الكرابيسي: "والذي حمل أحمد بن حنبل عليه من أجل اللفظ في القرآن فأما في الحديث فلم أر به بأسا".

بل إن الذهبي نفسه، قال بعد أن ذكر قول مسلمة في الكرابيسي: "فتعقب ذلك الحكم المستنصر الأموي على مسلمة، وأقذع في حق مسلمة في طرة كتابه وقال: كان الكرابيسي ثقة حافظا، لكن أصحاب أحمد بن حنبل هجروه لأنه قال: إن تلاوة التالي للقرآن مخلوقة، فاستريب بذلك عند جهلة أصحاب الحديث".

ومن المهازل أيضاً أن ابن حبان في كتابه "الثقات" فقال: "حدثنا عنه الحسن بن سفيان، وكان ممن جمع وصنف، ممن يحسن الفقه والحديث، ولكن أفسده قلة عقله، فسبحان من رفع من شاء بالعلم اليسير حتى صار علما يقتدى به، ووضع من شاء مع العلم الكثير حتى صار لا يلتفت إليه".

وهذا المسكين نفسه وقع فيه الحنابلة، بل طردوه من سجستان، لأنه كان جهميّاً حقيقيّاً.

وهناك موضوع أهم عندي من موضوع الشيخ الكرابيسي رحمه الله.

وهو موضوع الإمام الأجل، الإمام الأوّل غير مُنازع لأهل الحديث، ولأهل السنة والجماعة، أخذها بالأصالة وأخذها غيره بالنيابة، أمير المؤمنين في الحديث أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري رضوان الله عليه.

هذا الرجل الفذّ، هو أحد من قال باللفظ، وأخوه الإمام الأجل، الإمام الثاني لأهل الحديث وأهل السنة والجماعة، الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري.

وإني لأعجب، كيف يقول أصحاب أحمد، أن أهل السنة والجماعة والحديث طُرّاً أجمعون أجمعوا على ضلال الكرابيسي وأن اللفظ بالقرآن غير مخلوق، ونحن نجد البخاري ومسلم ونعيم بن حماد، بل والكرابيسي لأنه من أهل الحديث والسنَّة، يقولون ألفاظنا بالقرآن مخلوقة!

هذا الإمام البخاري قالوا عنه بأنه أخذ قوله في اللفظ من الكرابيسي!

قال ابن حجر العسقلاني الاشعري الجهمي في كتابه تهذيب التهذيب: "ذكر ابن منده في مسألة الإيمان: أن البخاري كان ‌يصحب ‌الكرابيسي، وأنه أخذ مسألة اللفظ عنه".

فهل هذا صحيح، أم أنه ادعاء باطل؟!

كتب البخاري لا تشير أبداً أنه أخذ شيئاً عن الكرابيسي، مع أنه لو أخذ عنه، فلم يأخذ عنه سوى الحق.

وإنما تشير أنه أخذ ذلك عن نُعيم بن حماد رحمه الله ورضي عنه، وحشى قبره مسكاً أذفر وزهراً أينع وروضاً أخضر. 

وهذا الرجل الصالح، سبق وأن أتيت برواية ابن حنبل في حقه، عندما دعا عليه أن يُحشى قبره ناراً، نسأل الله أن يعفو عن الجميع.

وهذا يدل، على أن ما قاله ابن منده، إنما هو استظهار من عنده، لأنه لم يسند قوله هذا.

لكن مع ذلك، نجد الحنابلة، يروون روايات تقول بأن البخاري أنكر أنه تكلم في اللفظ بشيء.

وفي رأيي والعلم عند الله تعالى: أن البخاري برز بروزاً عظيماً، لدرجة أنه حتى أحمد بن حنبل، لم يعد يساوي شيئاً أمام الإمام البخاري في الحديث.

وعظم البخاري في صدور الناس بدرجة لا يمكن تصوّرها.

وهنا تورّط الحنابلة، تورّطاً عظيماً، لأن الناس سوف ينجرفون الآن مع البخاري ومعتقده، كونه صار إماماً، بل صار أجل من أحمد، وقد يؤدي هذا إلى التقليل من قدر أحمد في نفوس الناس، لانه أخطأ في هذه المسألة، مما يجعل علمه وفقهه على المِحَكّ، لأن الناس لا ترحم، لو يخطئ العالم خطأً واحداً لشكّوا في علمه وفقهه.

ولذلك كان يجب أن يكون هناك حلّ لهذه المعضلة، ومن هنا جاءت فكرة وضع أخبار على البخاري، يدّعون فيها أنه تملَّص من هذا القول.

فإذا قيل: البخاري يقول باللفظ. يقولون هم: قد روينا عن فلان عن فلان، أنه أنكر ذلك.

ومما يدل على بطلان هذه الروايات، أن الحنابلة في زمن البخاري، صرحوا بأن البخاري يقول باللفظ، وأنهم نهوه عن ذلك فلم ينته، وأرسلوا إلى محمد بن يحيى الذهلي بذلك.

روى الخطيب البغدادي في تاريخه: "أخبرنا أبو حازم العبدويي، قال: سمعت الحسن بن أحمد بن شيبان يقول: سمعت أبا حامد الأعمشي يقول: رأيت محمد بن إسماعيل البخاري في جنازة أبي عثمان سعيد بن مروان ومحمد بن يحيى يسأله عن الأسامي والكنى وعلل الحديث ويمر فيه محمد بن إسماعيل مثل السهم كأنه يقرأ: ﴿قل هو الله أحد﴾ فما أتى على هذا شهر حتى قال محمد بن يحيى: ألا من يختلف إلى مجلسه لا يختلف إلينا، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه، ومن يقربه فلا يقربنا".

فالسؤال هنا: لماذا لم تخرج روايات تملٌّصه من القول باللفظ إلا بعد عدة أجيال، ولماذا بقي الحنابلة على هُجرانهم للبخاري مُدَّة حياته، إن كان قد تبرأ من هذا القول كما يزعمون!!

كما أن كتاب البخاري في خلق أفعال العباد، يسحق هذا الادعاء، ويكذّب هذه الروايات. 

لأن هذا الكتاب، أولاً، يرجّح كذب الروايات المروية عن ابن حنبل في مسألة اللفظ وتكفيره للقائلين بتجهم اللفظية.

فيقول البخاري في كتابه خلق أفعال العباد: ""أما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه كل لنفسه، فليس بثابت كثير من أخبارهم".

فالبخاري هنا يشكك في صحة الأخبار المروية عن ابن حنبل في اللفظ والملفوظ، وموقفه من القائلين بذلك.

ثم يحاول إحسان الظن بابن حنبل فيقول: "وربما لم يفهموا دقة مذهبه، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام، والخوض والتنازع إلا فيما جاء فيه العلم، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

فهو هنا يقول، بأن أصحاب أحمد وتلامذته لم يفهموا مراد أحمد في هذه المسألة، ولذلك ربما حرفوا كلامه لمعنى يظنون أن ابن حنبل عناه، وأن هذا ليس صحيحاً.

هكذا يقول الإمام البخاري، وأنا أقول: ليس لدينا من الروايات ما يدل على أن البخاري مصيب في ذلك، بل إن جميع الروايات تفيد أن الوقف في مسألة اللفظ والملفوظ، وتجهيم من قال بخلق اللفظ، وتبديع من قال بعدم خلق اللفظ، هو مذهب أحمد، لأنه لو كان يفرّق بينهما، لما اعترض وجهم من قال باللفظ.

كما أن كتاب خلق أفعال العباد،  ينصر القول بخلق التلاوة، صراحة لا كِنايةً، وأنها غير المتلو، وأن التلاوة مخلوقة. 

فيقول الإمام البخاري، بعد ذكر جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: "وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت»  فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الصلاة أطول من بعض وأخف، وأن بعضهم يزيد على بعض في القراءة، وبعضهم ينقص، وليس في القراءة زيادة ولا نقصان، فأما التلاوة فإنهم يتفاضلون في الكثرة والقلة والزيادة والنقصان، وقد يقال: فلان حسن القراءة لا القرآن، لأن القرآن كلام الرب جل ذكره، والقراءة فعل العبد، ولا يخفى معرفة هذا القدر إلا على من أعمى الله قلبه، ولم يوفقه ولم يهده سبيل الرشاد وليس لأحد أن يشرع في أمر الله عز وجل بغير علم، كما زعم بعضهم أن القرآن بألفاظنا وألفاظنا به شيء واحد، والتلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء، فقيل له: إن التلاوة فعل التالي، وعمل القارئ فرجع وقال: ظننتهما مصدرين، فقيل له: هل أمسكت كما أمسك كثير من أصحابك، ولو بعثت إلى من كتب عنك فاسترددت ما أثبت وضربت عليه، فزعم أن كيف يمكن هذا، وقد قلت ومضى؟ فقيل له: كيف جاز لك أن تقول في الله عز وجل شيئا لا يقوم به شرحا وبيانا إذا لم تميز بين التلاوة والمتلو؟ فسكت إذ لم يكن عنده جواب".

ثم قال الإمام البخاري: "فإن اعترض جاهل لا يترفع بقوله فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» دل أن القراءة في الصلاة، قيل له: إنك قد أغفلت الأخبار المفسرة المستفيضة عند أهل الحجاز، وأهل العراق، وأهل الشام، وأهل الأمصار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» فأوضح إن قراءة القارئ وتلاوته غير المقروء والمتلو، وإنما المتلو فاتحة الكتاب لا اختلاف فيه بين أهل العلم، وإن لم يعلم هذا المعترض اللغة فليسأل أهل العلم من أصناف الناس كما قال الله عز وجل: {يهدي إلى الرشد} [الجن: ٢] إن فقه وفهم فما تحملنا على كثرة الإيضاح والشرح، إلا معرفتنا بعجمة كثير من الناس، ولا قوة إلا بالله.

ثم شرع رضي الله عنه يستزيد من الحُجج على من لم يفرّق بين اللفظ والملفوظ والتلاوة والمتلو والقراءة والمقروء، بحجج دوامغ سوابغ، تهدّ أركان كل شكّاك معاند.

فكل هذه الشواهد البينات، تكذب تلك الروايات التي يزعم الحنابلة ان البخاري تبرأ فيها من القول باللفظ.

ولكن إن صحت، فهي عندي تورية من البخاري، فهو يقول لهم: انا لم اقل لفظي بالقرآن مخلوق، وإنما قلت: أفعال العباد مخلوقة. وإذا قال البخاري أن أفعال العباد مخلوقة، فقد حكم بأن اللفظ بالقرآن مخلوق، لأن اللفظ من فعل العبد. فكأن البخاري اراد فقط دفع غائلة الحنابلة، وكف ألسنتهم عنه.

ولكن في الحنابلة أصحاب حِيَل - وليس هذا هو حال الحنابلة وحسب بل هذا هو حال كل المذاهب والفرق تجد فيهم محتالون وجريئون على الكذب لنصرة مذهبهم وشيخهم - فبعض الحنابلة تركوا هذه النصوص البيّنات، وعمدوا إلى نصوص يرونها تؤيد مذهبهم في الظاهر، وقدموها على أنها دليل بان البخاري لا يفرق بين الللفظ والملفوظ!

فمن ذلك قول البخاري في كتابه خلق أفعال العباد: "فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بخلق."

وقال في موضع أخر: "وقال ابن عيينة: رأيت ابن إدريس قائما عند كتاب قلت: ما تفعل يا أبا محمد هنا؟ قال: «أسمع كلام ربي من في هذا الغلام»".

فاحتجوا بهذه النصوص على مرادهم.

والحقيقة أن كلام الإمام البخاري يفسّر بعضه بعضاً، فهو يريد بقوله هذا، أن النص المقروء والمتلو والمحفوظ، هو كلام الله الذي انشأه ونظمه وابتدأ الكلام به، فهو كلام الله من هذه الجهة، ولكن البخاري في نفس الوقت، يصرّح بالتفرقة بين اللفظ والملفوظ والقراءة والمقروء والتلاوة والمتلو والحفظ والمحفوظ. كما قدّمت سابقاً.

حسناً: ما مذهبي في القرآن واللفظ والملفوظ.

أقول مستعيناً بالله وحده لا شريك له، وعليه اتوكّل، وبه استعين، أن الله تعالى، علم ما هو قائل لعباده في هذا القُرآن، منذ أن أراد أن يعلم ذلك، وقبل أن يبدأ خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكتبه بالقلم في اللوح المحفوظ، وتكلَّم به يوم شاء ذلك، عندما جاء الوقت الذي أراد أن يتكلم به فيه، فتكلّم به بكلامه الذي هو صوته سبحانه، بحروفه وكلماته وجمله ومقاطعه، وكلام الله من فعله، وفعله من ذاته، وليس من الله شيء مخلوق، فالقرآن بهذا الاعتبار ليس مخلوقاً، وأن الله تعالى تكلم به إلى جبريل، وجبريل تكلَّم به، بصوته، الذي هو من فعله، وفعل جبريل صفة من صفاته، وجبريل مخلوق، ففعله مخلوق، فيكون بذلك كلامه مخلوق، فجبريل وكلامه مجرّد آلة لنقل كلام الله تعالى الغير مخلوق، ولم يحل كلام الله في كلام جبريل، ولم يلغ كلام جبريل، فصار الله هو من يتكّلم بدلاً عن جبريل، بل جبريل نقل القرآن بكلامه هو، وتلاه على النبي محمد بصوته هو، لا بصوت الله تعالى، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، حفظه من جبريل في قلبه، وتلاه بكلامه الذي هو صوته وكلام النبي من فعله، وفعله صفة من صفاته، وصفات النبي مخلوقة، لأنه مخلوق، فكلامه وما تضمنه من صوت مخلوق، وهو آلة لنقل كلام الله الغير مخلوق، ولم يحل كلام الله في كلام النبي، ولم يلغ كلام النبي، بل النبي نقل القرآن بكلامه هو، وتلاه على الناس بصوته هو، لا بصوت الله تعالى، والناس تناقلوه بينهم بكلامهم الذي هو أصواتهم المخلوقة، فلله تبارك وتعالى كلامه الذي هو صوته، وهو غير مخلوق، وللخلق كلامهم الذي هو أصواتهم، وهي مخلوقة. وهنا يتبيّن لنا أنه يجب التفرقة بين اللفظ والملفوظ والتلاوة والمتلو والقراءة والمقروء والحفظ والمحفوظ. ونقول: القرآن الكريم الذي نقراه ونحفظه ونكتبه كلام الله غير مخلوق، للدلالة على أصله، وعلى من انشاه وانظمه وابتدأ التكلُّم به.

والقرآن قديم في علم الله تعالى حادث الآحاد، أي حادث الآيات، وقوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) أي: محدث النزول، لا محدث بمعنى مخلوق.

والله وحده أعلم وأحكم.