سألني أحدهم، سؤالاً استنكاريّاً، على ما ورد في بحثي عن مسألة اللفظ والملفوظ، للدلالة على غلطي بزعمه في التفريق بين اللفظ والملفوظ، وقال:
كيف نقول عن القرآن بأنه كلام الله تعالى؟ في حين أننا نحن نقرأه بكلامنا – والكلام هنا هو الصوت لأن الكلام لا يكون إلّا صوتاً – ؟!
فقلت له: وما تقول أنت؟
فقال: أقول أن كلامنا بالقرآن هو عين كلام الله تعالى، وهو عين ما نحفظه في صدورنا، وهو عين ما نكتبه في مصاحفنا بالمِداد!
وأن كلامنا الذي هو لفظنا مخلوق، وصدورنا التي هي مستودع حفظنا مخلوقة، وأن الصحف والمداد مخلوقة، وما حوته من العبارات غير مخلوقة.
وأنه لا يمكن أن نفكّ بينهما، بأي حال، لذلك فإن مذهب أحمد بن حنبل في السكوت والتفويض هو الحقّ والصواب.
فقلت له: أن الكلام في اللغة، صوت، لا يكون الكلام إلا هكذا.
فهل عندما تستذكر القرآن في نفسك، تسمع صوت الله، وهو يتكلم بالقرآن؟
وهل عندما تفتح المصحف، تسمع صوت الله وهو يتكلّم بالقرآن؟
والجواب: كان لا.
لذلك أردت أن أبيّن هذه الجزئيات الغامضة في هذه المسألة، حتى تتضح، ويزول بشأنها الالتباس.
واسأل الله تعالى التوفيق والسداد في القول والعمل.
فأساس المشكلة، أنه كيف نقول عن القرآن بأنه كلام الله تعالى، ونحن الذين نقرأه بكلامنا ونحفظه في صدورنا ونكتبه في مصاحفنا؟!
لأن قولنا: بأن كل ذلك كلام الله تعالى، يفيد أنه عين كلام الله، فكيف يكون كلام الله صوتاً وحديث نفس ورسماً مكتوباً بالمداد في المصاحف في آنٍ معاً.
وهذا السؤال أجبنا عليه سابقاً في البحث المذكور، وهو أن كلام الله، ليس هو عين كلام الآدمي، عندما يتكلم بالقرآن، وليس هو عين ما يحفظه العبد في صدره، وليس هو عين ما هو مكتوب في المصاحف.
لأن كلام الله تعالى صوت يُسمع.
وهذا هو الكلام عند العرب.
وقد أثبت ذلك بالأدلة الشرعية ومن تعريفات أئمة اللغة في بحثي المذكور فليُراجع.
وعندما نقول نحن بأن ما نتلوه – أي: ما نتكلم به بأصواتنا من القرآن – وما نحفظه في صدورنا، وما نكتبه بأقلامنا في صحفنا. هو كلام الله تعالى.
إنما هو إخبارٌ مِنَّا، بأن من ابتدأ بإنشائه ونظمه والتكلُّم به، هو الله تعالى، وأن الكلام، إنما يُنسب إلى قائله ابتداءً وليس لقارئه أو ناقله.
فعندما نُسأل: هذا كلام من؟
نحن نعلم يقيناً، أن السائل، لا يسألنا عن عين الكلام الحاضر الذي يسمعه، أي: أصواتنا بالقرآن، ولا عن عين ما نحفظه في صدورنا، ولا عن عين الرسم المرسوم بالمداد على الصُحُف،
بل معنى سؤاله: من الذي أنشا هذا الكلام ونظمه وتكلَّم به أوّل مرّة؟
ونحن بناء على فهمنا لمراد السائل، ومعنى السؤال، نجيبه وِفْقاً لذلك، فنقول: هذا كلام الله. بمعنى، أن الله تعالى، هو من أنشأه ونظمه وابتدأ التكلُّم به.
وقد يتساءل أحدنا فيقول: إذا كان هذا الكلام الحاضر كلامنا - أي: صوتنا – بالقرآن وحفظنا وكتابتنا، فالذي بين ايدينا ليس كلام الله تعالى؟!
والجواب: هذا خطأ، لأنك إذا قلت بأن ما نقرأه وما نحفظه وما نكتبه، ليس كلام الله، إنما ينسحب قولك، على أصل هذ الكلام. فتكون بذلك قد نفيت أن يكون منشئ هذا الكلام وناظمه والمتكلِّم به أوّل مرّة، هو الله تعالى.
وهذا ما كان يريد أن يتوصَّل إليه الجهمية، عندما خاضوا في اللفظ والملفوظ.
كانوا يريدون أن يصلوا إلى هذه النتيجة.
وهذا الذي جعل كثيراً من أئمة السُنَّة يُصاب برعب، عندما تأتي هذه المسألة.
فلا هو بالذي يستطيع أن يقول هذا كلام الله، فينسحب قوله على صوت القارئ وحفظه، وعلى الحبر والمداد، ولا هو بالذي يستطيع أن يقول بأنه ليس كلام الله، فيقول بخلق أصل القرآن، الذي هو عين كلام الله تعالى، ففرّ بسبب ذلك إلى التفويض.
ولكن الله تعالى، هدى الأئمة نعيم بن حماد والبخاري إلى الحق فيها، فلم يقولوا فيها بقول الجهمية ولا بقول من فوّض هذه المسألة من أئمة السُنَّة.
وبدل أن يأخذ من فوَّض هذه المسألة من أهل السنة بقولهما، ذهب يقع فيهما ويبدّعهما، ويدعو عليهما، ويجتهد في إسقاطهما.
ولك أن تتصوّر، أن أبو زرعة وأبو حاتم تركا البخاري لهذا القول، وهو إن شاء الله خيرٌ منهما.
ولا نزكي على الله أحد، ولكن لنا الظاهر من أحوالهم.
وأيّ شيء خلّفه لنا أبو زرعة وأبو حاتم سوى كتبهما في الرجال فقط، فأين ميراثهما من الحديث!!
لا يوجد.
بينما نفع الله تعالى الأمة بكتب البخاري في الحديث، في العقائد والعبادات والمعاملات والآداب، وغير ذلك مما نفع الله الناس به،
وفوق ذلك خلف كتباً في التاريخ والرجال انتفع الناس بها.
بل إن أبا زرعة لما أخرج الإمام مسلم كتابه في الصحيح، غضب، وسخِر به، وقال: هؤلاء قوم يستعجلون الصدارة،
ومات أبو زرعة وهو لم يرى في نفسه أنه بلغ المنزلة التي تؤهله إلى إصدار كتابٍ في الحديث!
ولا أظن أبا حاتمٍ إلا كان يفكر مثل تفكير أبي زرعة، ولذلك لا نجد له ميراثاً من العِلم.
فتخيلوا لو أن جميع أهل الحديث كانوا يفكّرون بنفس تفكيرهما، هل كانت كتب الحديث التي انتفع بها الناس في أصقاع الأرض، وكانت سلاحاً فتّاكاً لأهل السنة في الرد على أهل البدع، وإقامة الدين، موجودة اليوم بيننا؟!
ولذلك نجح البخاري ومسلم، وعرف الناس فضلهما على أبي زرعة وأبي حاتم. لما قدماه في خدمة هذا الدين.
فقولنا: هذا كلام الله. هي إخبار وإجابة عامة. عن أصل هذه النصوص التي نقرأها ونحفظها، ونرسمها بالمداد على الورق.
ولكن عند التفصيل، نميِّز بين ما هو الغاية التي هي كلام الله وصوته وإنشائه ونظمه، وبين الوسيلة التي تؤدّى بها هذه الغاية، وهي كلامنا أي أصواتنا، ومِدادنا وأوراقنا، وصدورنا التي تحفظ هذا الكلام.
فكلامنا نحن الذي هو صوتنا، مخلوق، ونحن نؤدي به كلام الله الذي أنشأه ونظمه وابتدأ التكلُّم به. بكلامه الذي هو صوته الغير مخلوق.
والمِداد، مخلوق، ونحن نكتب به كلام الله الذي أنشأه ونظمه وابتدأ التكلُّم به. . بكلامه الذي هو صوته الغير مخلوق
والصُحُف مخلوقة، ونحن نكتب عليها كلام الله. الذي أنشأه ونظمه وابتدأ التكلُّم به. . بكلامه الذي هو صوته الغير مخلوق
ولكن بقي الحِفظ!
كيف نحفظ القرآن، كيف نحفظ كلام الله في صدورنا، كيف تحول القرآن من صوت إلى شيء يحفظ في صندوق الذاكرة؟!
الحقيقة، أني لا أعرف كيف يكون ذلك.
ولكن لعلّنا نجد الإجابة في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم وأحمد والطبراني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ.
والشاهد من هذا الحديث، أن الله تعالى، يخلق ما يُشبه الغيايتان أو الغمامتان أو الفرقان من الطير، كعبارة عنهما.
وكذلك الحسنات، ليس هي سوى الأعمال الصالحة، ولكن الله تعالى، يخلق خلقاً يُعبَّر بها عن الحسنات، فتوضع في الموازين.
وكذلك لا اله الا الله، يخلق الله تعالى بطاقة تعبِّر عنها، فتوضع في الموازين.
لذلك الذي يظهر لي – والعلم عند الله وحده – أن الله تعالى يخلق ما يُشبه الخوارزميات، التي تعبِّر عن الكلمات المكتوبة، أو الصور، أو غير ذلك، وتحفظ في ذاكرة الكمبيوتر.
فالله يخلق خلقاً يُشبه هذا الخلق، للتعبير به عن كلماته، يتم من خلاله حفظ القرآن في ذاكرة الإنسان، يستحضرها متى شاء.
واسأل الله أني أصبت الحق في هذه المسألة.
والله وحده أعلم وأحكم.