الرد على المرجئة - الحلقة الأولى

الفصل الأول: وهي في بيان ما يستلزم إقامة الحجة من مسائل الدين وما لا يستلزم، وما يكفر به وما لا يكفر.

اعلم أن مسائل الدين تنقسم إلى قسمين:

قسم يدرك بالعقل والفطرة، فهذا لا يحتاج إلى إقامة الحجة الرساليّة عليه، كون العقل والفطرة هي الحجة فيه.

وقسم لا يدرك إلّا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتاج على إقامة الحجّة الرساليّة عليه، لأنه لا يمكن إدراكه بالعقل ولا بالفطرة.

وكلا القسمين، ينقسم أيضاً إلى قسمين:

قسم يكفر فيه المخالف سواء بدون إقامة الحجة الرساليّة فيما يدرك بالعقل والفطرة، أو بعد إقامة الحجّة الرساليّة، فيما لا يمكن إدراكه بالقل والفطرة.

وقسم لا يكفر فيه المخالف، سواء بدون إقامة الحجة الرسالية، فيما يدرك بالعقل والفطرة، أو بعد إقامة الحجّة الرساليّة، فيما لا يمكن إدراكه بالعقل والفطرة.

فأما القسم الذي يدرك بالعقل والفطرة، ولا يحتاج إلى إقامة الحجة الرساليّة عليه، كون العقل والفطرة هي الحجة فيه، ويكفر المخالف فيه بدون إقامة حجة رساليّة، فهو: 

توحيد كمال الصفات، وتوحيد الربوبيّة، وتوحيد الألوهية، ويندرج تحت توحيد الربوبيّة: توحيد الملك، وتوحيد الخلق، وتوحيد الأمر والتدبير.

فمن زعم أن لله تعالى ندّاً في كمال صفاته، وخصوصاً القوّة والقدرة، أو أشرك مع الله إلهاً غيره، في ملكه أو زعم أن هناك خالقاً يخلق مع الله تعالى، أو شريكاً في أمره وتدبيره، أو صرف له الدعاء والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة، فيما لا يقدر عليه إلّا الله تعالى، أو تقرّب لمخلوق بالذبح والنذر، ليقضي له شيئاً من حوائج الدنيا أو الأخرة، لا يقدر على قضائها إلا الله عز وجل، فهذا كافر، ولو ادعى الإسلام، وصلى وصام وحج البيت الحرام، وسواء بلغته الحجة أم لم تبلغه.

وهناك ما هو أعظم من الشرك، مثل: إنكار وجود الله تعالى، أو الإقرار بوجوده، مع سبّه أو شتمه، أو لعنه، تعالى الله وتقدس، أو التكبر عليه، والإعراض عن الهدى الذي جاء به، وبعث به رُسُلَه، أو أدعاء أن هناك من هو أكمل في صفاته من الله تعالى، فهذه أعظم من الشرك.

والدليل على ذلك: أن العقل والفطرة، تحيل أن يكون للمخلوق قوّة وقدرة، فوق قوّة وقدرة المخلوقات، بمعنى، أنها لا تملك قوىً خارقة للعادة، كون هذه المخلوقات محكومة بقوانين معيّنة لا تخرج عنها، فبالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن أن الصنم قادر على سماعنا وإجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عما لا يقدر عليه في الحقيقة إلا الله عز وجل. وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن أن الحجر أو الشجر قادرة على سماعنا، وإذا كانت تسمعنا، فهي غير قادرة على إجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عمّا لا يقدر عليه في الحقيقة إلّا الله عز وجل. وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن يظن أن مخلوقاً ميّتاً، قادر على سماعنا وإجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عما لا يقدر عليه في الحقيقة إلا الله عز وجل، وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن بأن مخلوقاً يقيم في مكان بعيد، قادر على سماعنا وإجابة دعائنا، فيما يقدر عليه المخلوقون عادة، فضلاً عما لا يقدر عليه في الحقيقة إلا الله عز وجل، وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن ان نظن أن مخلوقاً عاجزاً عن الحركة، قادر على إجابة دعائنا، فيما يحتاج إلى الحركة والنهوض، وكذلك بالعقل والفطرة، لا يمكن أن نظن أن مخلوقاً قادراً على إحياء الموتى، أو إنزال المطر، أو أنه قادر على أن يهب الأطفال للآباء والأمهات، أو أن ييسّر الرزق.

فمن يسأل مخلوقاً والحالة كما وصفت، فهذا يعني أنه يعتقد فيه قوة وقدرة فوق عادة المخلوقات، بحيث يستطيع ما لا يستطيعه عامة المخلوقات، وبالتالي جعله ندّاً لله تعالى في كمال صفتي القوة والقدرة، وإن زعم أنه لم يفعل، ولكنه فعل في الحقيقة، كونه استجاز أن يسأل من ذلك المخلوق، جميع ما يسأله من الله تعالى، بلا تفريق.

فكانت دلالة العقل والفطرة في هذه المسألة كافية في إقامة الحجة على هؤلاء، وإن لم يبعث رسول ولم ينزل كتاب.

وأما القسم الذي يدرك بالعقل والفطرة، ولا يحتاج إلى إقامة الحجة الرساليّة عليه، كون العقل والفطرة هي الحجة فيه، ولكن فاعله لا يكفر ولا يخرج من الإسلام، وإنما هو عاصٍ لله تعالى، فهي:

القتل بغير وجه حق، واللواط، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، بالغش والخداع والمكر، والاغتصاب، وظلم الناس وقهرهم، بأي نوعٍ من أنواع الظلم.

فمن ارتكب شيئاً من ذلك، فهو عاصٍ ومستوجب للعقوبة الإلهيّة، وإن لم تبلغه الحجة الرساليّة في تحريم ذلك، كون العقل والفطرة، هي الحجة فيها.

والدليل على ذلك: ما رُوي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر".

رواه البخاري ومسلم.

فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أن الرجل سوف يؤاخذ بما عمل في جاهليّته، من القتل بغير وجه حق، والسرقة واللواط، والسرقة، وأكل أموال الناس بالباطل، بالغش والخداع والمكر، والاغتصاب، وظلم الناس وقهرهم، بأي نوعٍ من أنواع الظلم. ولم يعذر بجهله، ولا بعدم بلوغ الحجّة الرساليّة له، كون العقل والفطرة هي الحجّة في قبح هذه الأعمال وفسادها، وإذا كان هذا حال القاتل واللوطي والسارق واضرابهم، فكيف بالمشرك، الذي ذنبه أعظم من ذنوب هؤلاء وأشنع وأفجر! فهذا الحديث دللي أيضاً على أن المشرك لا يعذر بأي عذر من الأعذار، وأن الحجّة العقليّة والفطريّة قائمة عليه، وأنه مؤاخذ بلك وإن لم تبلغه الحجّة الرساليّة.

وعن زيد بن ثابت قال: ينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه".

رواه مسلم.

فانظر، كيف أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن هؤلاء المقبورون، يعذبون في قبورهم، حتى حادت بغلته عنها وكادت أن تلقيه، وقد يكونون يعذبون على الشرك، أو على ما اقترفته أيديهم في الجاهلية، من القتل بغير وجه حق، أو السرقة وأكل أموال ناس بالباطل والاغتصاب وظلم الناس، وسوء الأخلاق، مع أنهم ماتوا قبل بعثة النبي، ولم تبلغهم الحجّة الرساليّة.

وأما القسم الذي لا يدرك إلّا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحتاج على إقامة الحجّة الرساليّة على المخالف فيه، لأنه لا يمكن إدراكه بالعقل ولا بالفطرة، والمخالف فيه يكفر بعد إقامة الحجة الرساليّة عليه، فهي:

الإيمان بالملائكة والجنّ والرسال والكتب المنزلة عليهم والبعث واليوم الأخر والقدر خيره وشرّه. وما افترضه الله تعالى من العبادات، والمعاملات، والأقضية، وسائر الشرائع.

فمن جحد شيئاً من ذلك جهلاً منه، لم يكفر، حتى تقام عليه الحجّة الرساليّة، فإن جحد ذلك بعد إقامة الحجة الر ساليّة عليه، فهو كافر الكفر الأكبر، فيما قلّ منه أو كثر.

فإن لم يجحد ذلك بعد إقامة الحجّة الرساليّة عليه، ولكن ترك العمل فيما يجب العمل به، من العبادات وسائر الشرائع، فهو عاصٍ وليس بكافر.

ما عدا الصلاة، لورود النصّ الشرعي، بان تارك الصلاة كافر، سواء جحد أنها فرض من الله أو لم يجحد ذلك، فتارك الصلاة يكفر مطلقاً بعد إقامة الحجة الرساليّة عليه.

والدليل على ذلك: ما روي عن حذيفة بن اليمان قال: يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها. فقال له صلة بن زفر، رجلٌ من أصحاب حذيفة: ما تغني عنهم: لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة، تنجيهم من النار ثلاثا.

رواه ابن ماجه.

فهذا الحديث، يدل على أن من لم يبلغه الخبر في العبادات وما يشبهها، كالمعاملات، وسائر الشرائع، ما خلا التوحيد، فهو معذور بجهله، حتى تقام عليه الحجة الرساليّة.

وأما القسم الذي لا يدرك إلّا بالخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحتاج على إقامة الحجّة الرساليّة على المخالف فيه، لأنه لا يمكن إدراكه بالعقل ولا بالفطرة، والمخالف فيه لا يكفر بعد إقامة الحجة الرساليّة عليه، ولكنه عاصٍ لله تعالى، ومستوجب للعقوبة الإلهيّة، فهي: جميع العبادات والمعاملات والأقضية وسائر الشرائع، شرط أن لا يجحدها ولا يستحل شيئاً منها، فمن جحد شيئاً منها أو استحل ما حرّم الله عز وجل، فقد كفر الكفر الأكبر، لجحده ما فرضه الله تعالى، ولاستحلاله ما حرم الله عز وجل، ولكن لا يكفر إلا بعد إقامة الحجة، ما عدا الصلاة، على ما سبق وأن بيّنت.

والدليل على ذلك: قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰۤ إِثۡمًا عَظِیمًا﴾ [النساء] 

فأخبر الله تعالى أن كل شيء دون الشرك، فهو معصية، والواقع فيها مستوجب للعقوبة، إلّا أن يعفو الله عنه.

صفة الكلام والرد على الجهمية

الله تبارك وتعالى متكلِّم، وكلامه بصوت وحرف، والدليل من القرآن العظيم والسنّة النبويّة الصحيحة واللغة والعقل.

قال الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِیما﴾ [النساء]

وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاۤءَ مُوسَىٰ لِمِیقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ﴾ [الأعراف]

وزعم الجهمية الأشاعرة وإخوانهم الجهميّة الماتريدية، أن كلام الله ليس صوتاً ولا حرفاً، ولا يتعاقب ولا يتتالى، وأنه حديث نفس، ثم يكابرون ويقولون عن حديث النفس بأنه: كلام!

وهذا قول لم توافقهم عليه إخوانهم الجهميّة المعتزلة، بل عارضوهم عليه، وأنكروه عليهم، فقد كفانا شهادة إخوانهم المعتزلة على صحة قولنا، بأن الأشاعرة والماتريدية، يكذبون عندما يصفون حديث النفس بأنه كلام!

فكيف وقد شهد الله وشهد رسوله وأهل اللغة على كذبهم!

فما سوف نبيّنه من أدلة في الرد على قول الأشاعرة والماتريدية، في أن حديث النفس ليس كلاماً، يتضمّن إثبات أن كلام الله تعالى بصوت وحرف، وأنه يتعاقب ويتتالى، مما يتضمّن الرد على المعتزلة الذين يدّعون أن الله لا يتكلم!

فالله تبارك وتعالى في كتابه العزيز فرّق بين الكلام الذي هو صوت وحرف وبين حديث النفس.

فقال تعالى عن مريم: ﴿إِنِّی نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ صَوۡما فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡیَوۡمَ إِنسِيّا﴾ [مريم]

فأمرها الله تعالى أن تصوم عن كلام قومها فلا تخاطبهم بصوت وحرف، ثم قال تعالى مخبراً عنها: ﴿فَأَشَارَتۡ إِلَیۡهِۖ﴾ [مريم] أي أشارت إلى قومها أنها صائم عن الكلام، وأن عليهم أن يكلموا الصبي، والإشارة هنا لا يمكن أن تكون إلا بحديث نفس، فإذا كان حديث النفس كلام -كما يزعم الأشاعرة والماتريدية- لم يجز لها أن تحدثهم حديث نفس، لكونها صائمة عن الكلام. 

فإن قال قائل: إنما صامت عن الكلام بصوت. فالجواب: هذا كلام تقولونه لترقّعوا به قولكم، ثم إنه وحسب الآية صامت عن مطلق الكلام، ولم تحدِّد، فلو كان هناك كلام بصوت وكلام بغير صوت، لقالت: (فلن أكلم اليوم إنسيَّا بصوت) وبما أنها لم تقيد صومها عن الكلام، بصوت، وإنما أشارت بأنها سوف تصوم عن الكلام، ثم حدَّثت قومها بحديث نفس أثناء إشارتها لهم إلى الغلام، تبين أن الكلام لا يكون إلا بصوت، وأن حديث النفس ليس كلاما.

وقال تعالى عن زكريا عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّیۤ ءَایَة قَالَ ءَایَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَیَّامٍ إِلَّا رَمۡزاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِیرا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِیِّ وَٱلۡإِبۡكَـٰرِ﴾ [آل عمران] 

وقال تعالى مخبراً عن زكريا: ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰۤ إِلَیۡهِمۡ أَن سَبِّحُوا۟ بُكۡرَة وَعَشِيّا﴾ [مريم]

وقوله: (وسبِّح بالعشي والإبكار). وقوله: (أوحى إليهم) أي: أشار إليهم أن يسبحوا الله بكرة وعشيا. هي أحاديث نفس، فلا تكون الإشارة إلّا أحاديث نفس، فلو كان حديث النفس كلاما -كما تزعم الأشاعرة والماتريدية- لم يجز له أن يشير إليهم بشيء.

والدليل على ذلك من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم".

رواه البخاري ومسلم.

فهذا الحديث، دليل صريح قاطع، على أن حديث النفس ليس كلاماً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، فرّق بين حديث النفس، وبين الكلام.

فأبى الظالمون إلّا أن يجعلوا حديث النفس كلاماً، مُكابرة للحقيقة، ومُعارضَة للشريعة!

ومن حجج السنة على أن الله يتكلم بصوت يسمع وحرف ينطق، ما رواه البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة".

فدلّ هذا الحديث على أن الله يكلّم عباده بصوت يسمع وحرف يفهم، بدلالة قوله: أنه ليس بينه وبينهم ترجمان، وهؤلاء الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة يزعمون أن الله تعالى لا يتكلم بحرف وصوت وأنه يخلق صوتاً يكون ترجماناً بينه وبين خلقه يترجم لهم ما يحدِّث به نفسه!

وأما الأدلة من اللغة.

فقد قال صاحب دليل السالك: "الكلام لغة: اللفظ الموضوع لمعنى مفيداً أو غير مفيد. واصطلاحاً: اللفظ المفيد، والمراد بالمفيد ما يفهم منه معنى يحسن السكوت عليه. بحيث لا يبقى السامع منتظراً لشيء آخر. مثاله: الله ربنا، ومحمد نبينا. وقوله: "اللفظ": أي الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية، بخلاف الإشارة، والكتابة، وعقد الأصابع، ونحو ذلك، فلا يسمى كلامًا عند النحاة. وقوله: "المفيد": يخرج الكلمة المفردة نحو: خالد، والمركب الإضافي نحو: أبو عبد الله، والإسناد المتوقف على غيره نحو: إنْ قدم هشام..، فإن الاقتصار على مثل ذلك لا يفيد. وأقل ما يتألف منه الكلام: اسمان مثل: الغيبة محرمة. أو فعل واسم مثل: جاء الحق".

فوصف الكلام بأنه لفظ، واللفظ لا يكون إلّا بصوت.

وقال ابن منظور في لسان العرب نقلا عن ابن سيده: "الكلام القَوْل، معروف، وقيل: الكلام ما كان مُكْتَفِياً بنفسه وهو الجملة، والقول ما لم يكن مكتفياً بنفسه، وهو الجُزْء من الجملة؛ قال سيبويه: اعلم أَنّ قُلْت إنما وقعت في الكلام على أَن يُحكى بها ما كان كلاماً لا قولاً، ومِن أَدلّ الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماعُ الناس على أَن يقولوا القُرآن كلام الله ولا يقولوا القرآن قول الله، وذلك أَنّ هذا موضع ضيِّق متحجر لا يمكن تحريفه ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه، فَعُبِّر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أَصواتاً تامة مفيدة". 

فوصف ابن سيده الكلام بأنه صوت.

وقال في القاموس المحيط: "والكَلِمَةُ: اللَّفْظَةُ، والقَصيدةُ" وقال أيضا: "وتَكَلَّمَ تَكَلُّماً وتِكِلاَّماً: تَحَدَّثَ. وتَكالما: تَحَدَّثا بعدَ تَهاجُرٍ". 

فوصف الكلام هنا بأنه حديث بصوت، فالحديث أعم من الكلام، فكل كلام حديث وليس كل حديث كلام، لأن من الحديث ما يتحدث به المرء بينه وبين نفسه وليس هذا كلاما، ومثله القول، فإن القول أعم من الكلام، فكل كلام قول وليس كل قول كلام، لأن من الأقوال ما ليست كلاماً.

وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "الكاف واللام والميم أصلانِ: أحدهما يدلُّ على نطقٍ مُفهِم". 

فوصف الكلام بأنه نطق.

وفي كتاب الآجرومية في النحو، للآجرومي، قال في تعريف الكلام: "هو اللفظ المركب المفيد بالوضع".

فقال هو "اللفظ" فلا يكون الكلام كلاماً حتى يلفظ وينطق.

بينما الأشاعرة والماتريدية، يزعمون أن حديث النفس كلام، فكذّبوا بالقرآن وحديث رسول الله وبلغة العرب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وأما بالحجج العقلية.

فقد علم بالعقل الصحيح والفطرة السليمة، أن الكلام بصوت صفة كمال، وأن العجز عن الكلام بصوت صفة نقص، فخالف الجهمية من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة العقل الصحيح والفطرة السليمة، فزعموا العكس!

وقد ذم الله تعالى اليهود عندما عبدو العجل، فكان فيما ذمهم به أن قال: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا) [طه]. أي: أن العجل لا يستطيع التحدث إليهم، بكلام مفهوم.

وذم نبي الله إبراهيم قومه على عبادة الأصنام، وكان مما عابها به، أنها لا تستطيع الكلام، فقال الله مخبراً عنه: (فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) [الصافات].

بينما الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة، يصفون الله بالصفة التي تنقَّص الله العجل بها، وتنقَّص إبراهيم بها أوثان قومه، فتعالى الله الملك الحق عن قول الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة علواً كبيرا!


فتوى للإمامين الجليلين: الإمام أحمد بن حنبل والإمام إبراهيم الورّاق.

قال الحافظ عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة: وقال أبي رحمه الله: حديث ابن مسعود رضي الله عنه "إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان" قال أبى: وهذا الجهمية تنكره. وقال أبي: هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله عز وجل لم يتكلم فهو كافر، إلا أنّا نروي هذه الأحاديث كما جاءت.

وقال عبد الله بن أحمد في الفتاوى: قلت لأبي: إن ههنا من يقول: إن الله لا يتكلم بصوت، فقال: يابني هؤلاء جهمية زنادقة، إنما يدورون على التعطيل.

وذكر صالح بن أحمد بن حنبل، وحنبل، أن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: "جبريل سمعه من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم ". 

ذكره قوام السنة الأصفهاني في الحجة في بيان المحجة.

وقال الخلال: وأنبأنا أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلَّم وقال: من زعم أن الله كلَّم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام، فتبسم أبو عبد الله وقال: ما أحسن ما قال، عافاه الله.

تنبيه: عبدالوهاب، هو الإمام عبدالوهاب الورّاق، أحد أعلام السنة المتقدمين.

وأنا أعلم، بأن أئمة السُنّة بشر يصيبون ويخطؤون، وإنما نأخذ من أقوالهم، ما وافقوا فيه الحقّ، وكان عَضداً له، وحُجّة على المخالفين.

فإذا ثبت بالأدلة من الكتاب والسنة واللغة والعقل، وفتاوى كبار أئمة السنة، أن كلام الله تعالى بصوت وحرف، وأن كلامه من فعله، وأن أفعاله صادرة من ذاته، علمنا أن حرفه وصوته ليس بمخلوق، فهو يتدفّق من ذاته، وإذا خرج من ذاته، فلا يُدرى ما يصنع الله به، هل يعود إلى ذاته كما بدأ منها، أو يصنع الله به ما يشاء.

وهنا تنبيه: اللغة سواء كانت عربية أو أعجمية، هي الأصوات التي يصدرها المتكلم عندما يتكلم، والكلام فعل، وفعل العبد مخلوق، لأن الآلة التي يستخدمها العبد للفعل مخلوقة، وأما فعل الله فغير مخلوق، لأنه خالق وليس بمخلوق، وعلى هذا فأي لغة يتكلم الله بها فهي غير مخلوقة، لأنها من فعله سبحانه، وأي لغة يتكلم بها العبد مخلوقة، لأنها من فعل العبد.

وأما الشيء الذي لا يتكلم بصوت وليس بأخرَ، كما يقول المتكلمون، فهذه صفة العدم، فإن العدم لا يتكلم وليس بأخرَ أيضا.

مسألة اللفظ والملفوظ وما هو كلام الله الغير مخلوق.

انقسم أئمة السنة في هذه المسألة على ثلاث فرق، كل فرقة تدعي أنها أصابت الحق في هذه المسألة.

فالفرقة الأولى قالوا: بأن اللفظ والملفوظ واحد، وأن كلاهما فعل الله تعالى وتقدس، وإنما قالوا هذا القول، فراراً من القول بخلق القرآن، لأنه بزعمهم، إذا فرقوا بين اللفظ والملفوظ، وزعموا أن اللفظ مخلوق، فقد زعموا أن القرآن الذي بين أيدينا مخلوق، كونه لا قرآن إلا ما نتلوه بأفواهنا.

والفرقة الثانية قالوا: بأن اللفظ والملفوظ مختلفان، وإنما بنو قولهم على أن تلاوة القرآن بأفواه العباد، وأفواه العباد مخلوقة، وإذا كان كلام الله غير مخلوق، فبالتالي فرّقوا بين اللفظ والملفوظ. فقالوا: اللفظ فعلنا بأفواهنا وهي مخلوقة، والملفوظ القرآن وهو كلام الله الصادر من ذاته، وذاته سبحانه ليست مخلوقة.

وممن قال بذلك: الإمام نعيم بن حماد وتابعه الإمام البخاري، وألّف في ذلك كتابه الشهير: خلق أفعال العباد.

وأما الفرقة الثالثة، فلم تحسن شيئاً من هذا كله، لذلك آثرت السكوت عن هذا الأمر والخوض فيه.

والإمام أحمد بن حنبل، سلك مسلك الفرقة الثالثة، وهو السكوت، وهو مذهب الجمهور، كما يزعم البعض، ولم أتثبت من أن هذا هو مذهب الجمهور.

وأذكر هنا خبراً وقع للإمام أحمد بن حنبل مع تلميذه أبي طالب، حيث سأله أبو طالب عن اللفظ والملفوظ، فلم يحسن الإمام أحمد أن يجيب على سؤاله، وأعطاه كلاماً فهم منه أبو طالب أن الإمام أحمد بن حنبل يقول بالحلول الجزئي، فأخذ ذلك وكتب به لبعض معارفه، فبلغ الإمام أحمد ما فعله أبو طالب، فغضب منه، ووبّخ أبو طالب، وقال له: أنا لم أقل لك ذلك. أي: تبرأ مما فهمه أبو طالب من كلامه.

وهذا إن دلّ، دلّ على أن الإمام أحمد لم يعطه جواباً صريحاً بيّناً في المسألة، ثُمّ لم يُبيّن له وجه الحق فيها، بعد أن خَطَّأ أبو طالب في فهمه لكلامه! وهذا فيه إشارة واضحة بأن الإمام أحمد لم يكن يدري ما هو الجواب الصحيح لهذه المسألة.

ثم صار الإمام أحمد بن حنبل، يفتي بالسكوت عن هذه المسألة.

بل أفتى بأن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع.

ولاحظوا أنه اكتفى فقط بتبديع من قال "لفظي غير مخلوق" مع أن قائل هذا القول، يلزمه القول بالحلول الجزئي! بينما جهّم من قال لفظي بالقرآن مخلوق، والجهمية في مذهب الإمام أحمد: كفّار! 

والقول بالحلول سواء كان كلّيّاً أو جزئيّاً قول عظيم، وفرية شنيعة. إذا جعلوك في تلك اللحظة التي تقرأ فيها القرآن أنت الإله أو أن جزءاً منك، وهو الصوت والحرف الصادر منك، صار إلهيّاً، ولا ينفصل اللاهوت من الناسوت إلا بعد فراغك من القرآن، فليت شعري أي قول أقبح من هذا وأشنع، إنه لا يقل شناعة وقبحاً عن القول بأن القرآن مخلوق، وربما أشنع وأقبح!

والذي أثار استغرابي، هو أن الإمام أحمد مع كونه أفتى بالسكوت في هذه المسألة، وهو ما يشير إلى أن الإمام أحمد لم يهتد إلى الحق فيها، نجده عندما بلغه قول الإمام نعيم بن حمّاد بأنه يجب التفريق بين اللفظ والملفوظ، قال: ملأ الله قبره ناراً! فإذا كان الإمام أحمد لا يعرف الجواب الحق في هذه المسألة، فما أدراه لو أن الإمام نعيم أصاب الحق فيها؟!

وقد أخذ المتأخرون يقتبسون الأعذار لمن أفتى بالسكوت، بدعوى أنهم أفتوا بالسكوت عن ذلك، لأن هذه الأقوال فيها إيهام وإجمال واحتمال.

وهذا في الحقيقة غير صحيح، لو كان صحيحاً لما دعا الإمام أحمد على الإمام نعيم بن حمّاد بالعذاب في القبر لقوله بالتفرقة بين اللفظ والملفوظ، وإنما غلب على ظنّه أن نعيم عاد جهمياً بقوله أن اللفظ بالقرآن مخلوق، فدعا عليه لذلك، بدلالة أن الإمام أحمد نفسه قال: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي".

وهذا غريب جدّاً! فكلام الإمام نعيم بن حمّاد لا يشبه قول الجهمية، وأين قول الجهميّة من قول نعيم؟

بل إن قول: "لفظي غير مخلوق" الذين أكتفى الإمام أحمد بتبديعهم، أكثر شبهاً بقول الجهميّة من قول نعيم بن حماد، لأن فيه شبهاً بقول الجهميَّة، الذين يدّعون أن الله تعالى في كلّ مكان!

فما هو الحق في هذه المسألة وما الدليل على ذلك:

إنه لا بد من أن يلزمك أحد أمرين: إما أن تقول بأن اللفظ والملفوظ شيء واحد، أو تقول بأن اللفظ والملفوظ شيئان مختلفان، لأنه لا يوجد حالة أخرى يمكن أن تعتبرها خياراً متاحاً، سوى السكوت، والسكوت ليس جواباً، بل هو عجز عن الجواب، وعجز عن إدراك الصواب في المسألة المسكوت عنها.

والحق إن شاء الله تعالى هو مع أصحاب القول الثاني، وهو التفرقة بين اللفظ والملفوظ.

لأنك إذا لم تفرق بين اللفظ والملفوظ، لزمك أمران:

الأول: أن تقول بأنهما فعل العبد وبالتالي مخلوقان، وبالتالي تقرّ بأن القرآن مخلوق، وهو قول الجهميّة، الذين يريدون نفي صفات الله تعالى الثابتة بالكتاب والسنّة.

والثاني: أن تقول بأنهما فعل الله تعالى، وبالتالي هما غير مخلوقان، وهنا يلزمك القول بالحلول الكلّي أو الجزئي، والحلول الكلّي قول طائفة من الجهميّة أيضاً، فالخالق والمخلوق عندهم هو الله تعالى وتقدس عن قولهم علواً كبيراً، فلا خالق إلّا الله، ولا مخلوق إلّا الله، قبّحهم الله وأخزاهم. والقول بالحلول الجزئي أيضاً شنيع قبيح، إذ جعلت الله تعالى وتقدس أو شيئاً منه، يحلّ في لسانك وأسنانك ولهاتك وحلقك وريقك، تعالى الله وتقدس عن ذلك.

أمّا إذا فرّقت بين اللفظ والملفوظ، فقد أعطيت كل ذي حقٍّ حقّه.

فالله له كلامه صوته وحرفه، الغير مخلوق، والعبد له كلامه صوته وحرفه المخلوق، فكلام الله تعالى بالقرآن أو غير القرآن ليس مخلوقاً، وكلام العبد بالقرآن أو غير القرآن مخلوق، فالعبد يقرأ القرآن بصوته وحرفه، وهما قطعاً من فعله، لا يشكّ في ذلك ولا يُمترى.

والسؤال هنا: هل بناءً على ذلك يكون القرآن الذي نتلوه ونكتبه في المصاحف مخلوق؟

والجواب: ليس مخلوقاً، لأن الكلام إنما ينسب إلى قائله ابتداءً، وليس للمُؤدي له.

ومثال ذلك: لو أن شخصاً أخبرك بكلام شفويّاً، أو طلب منك كتابته في ورقة، ثم أمرك أن تبلغه رجلاً أخر. فبلغته ذاك الرجل، فلو سألك ذاك الرجل: هل هذا كلامك؟ فسوف تقول: لا، هو كلام فلان. فنسبت الكلام إلى قائله ابتداءً.

فكذلك القرآن إنما ينسب لقائله ابتداء.

لذلك نقول: أن القرآن ليس مخلوق، لأننا نسبناه لقائله ابتداءً، لأنه كلام الله ومن علم الله، وهما ليسا مخلوقان، لأنهما صفتان لله تعالى، وصفات الله من الله وليس من الله شيء مخلوق، نثبت بذلك أن لله تعالى كلاما وعلما هما صفتان ذاتيتان له.

ولكن الأدوات التي استخدمت في قراءته أو كتابته مخلوقة قطعاً، فأفواهنا التي نتلو بها القرآن مخلوقة، وأصواتنا التي نُسْمِعُ بها القرآن مخلوقة، والحبر والورق الذي كتب به القرآن مخلوقة أيضاً.

فأفواهنا نحن المخلوقات، كالحبر والورق الذي تُرسم به كلمات الله التي تكلم بها، هي مخلوقات يُؤدَّى بها كلام الله الغير مخلوق.

ولكن لا نقول بأن قراءتنا بأفواهنا هي عين قراءة الله تعالى، ولا نقول بأن رسم كلمات القرآن بالحبر على الورق هي عين كلام الله تعالى. 

ولا أحد يقول: بأن الكلمات المرسومة بالحبر على الورق، سواء كانت قرآناً أو غيره، أنه كلام، لأن الكلام لا يكون إلا صوتاُ منطوقاً ملفوظاً، ومن يقول بذلك قليل عقل وفقه، لأن ما كتب بالحبر على الورق، ليس سوى رسم لهذه الكلمات، لتقييدها.

وإنما نحترم المصحف ونجله، لأن الكلمات المرسومة فيه، هي كلمات الله عزّ وجلّ.


ومثال ذلك، لو رُسِمت صورة شخصٍ له قدر عظيم في قلبك، على ورقة، فإنك لو سُئِلت من هذا؟ فسوف تقول: فلان. وأنت بالطبع لا تريد أن هذه الصورة هي عين فلان، وذاته الحقيقية، وإنما تريد أن تقول: هذه صورة فلان، وإنما اختصرت الجواب، وأشرت إلى الصورة إشارتك إلى الذات الحقيقية، لعلمك أن السائل، إنما يريد أن يسأل عن اسم صاحب الصورة. وإذا كان صاحب الصورة ذو قدر عظيم في قلبك، فمن المحال أن تُهين صورته بأي شكل من الأشكال، وهذا ما جُبِلت عليه النفوس، فكذلك صورة كلمات الله المكتوبة في المصحف، عندما تُسأل: هذا كلام من؟ سوف تقول: هذا كلام الله. لعلمك أن السائل إنما يريد أن يسأل عن عين الكلام الذي تم تصويره في المصحف، ولا شك أنك سوف تجل المصحف وتكرمه، لأن الصورة التي فيه، هي صورة كلام الله تعالى.


وهنا يكمن الفرق بين المذهب الحق، ومذهب المتكلمين الجهمية، إذ أن المتكلمين ينسبون الكلام لناقله وليس للمنقول عنه -أي: قائله ابتداءً- وللكتابة، وليس للمكتوب عنه. ومن هنا جاء قولهم أن القرآن الذي بين أيدينا مخلوق.

ثم هم لا يثبتون لله صفة كلاماً على الحقيقة، بل ينكرونها صراحة كالجهمية المعتزلة، أو يموهون، كالجهمية الاشاعرة والماتريدية، فكلام الله عندهم ليس صوتاً ولا حرفاً، بل هو حديث نفس فقط، ثم هو عندهم لا يتعاقب ولا يتتالى، بل هو أشبه ما يكون عندهم بموجة واحدة متّصلة، بلا صوت ولا حرف. ولا تسألهم ما دليلهم على هذا القول، لأنه لا دليل لديهم، هو شيء أفرزته عقولهم المريضة فقط، فالكلام بصوت وحرف عندهم كله مخلوق، وبالتالي، فالقرآن العربي مخلوق إطلاقاً.

وقولي بأن الجهمية الأشاعرة والماتريدية يُموّهون، لأنهم يتظاهرون بموافقة أهل السنة في القول بأن القرآن كلام الله، فإذا سألتهم ما هو كلام الله عندكم، قالوا: هو حديث نفس فقط وليس بحرف ولا صوت، ولا يتعاقب ولا يتتالى، وهذا عين كلام المعتزلة، اللهم إنهم خالفوهم فقط في وصف حديث النفس بأنه كلام، وهذا ما لم توافقهم عليه إخواتهم المعتزلة.

وهذا معنى قول أئمة السنة بأن الأشاعرة والماتريدية تمسكوا بأصول المعتزلة وخالفوهم في الفروع.

ومن هنا نتيقَّن، أن ما ذهب إليه الإمام نعيم بن حمّاد ووافقه عليه الإمام البخاري، هو الحق إن شاء الله في هذه المسألة، لوضوح قولهما وقوّة حجتهما، وموافقتهما للعقل الصحيح والفطرة السليمة، وأن من خالفهما لم يأتي بحجة ولا دليل صحيح صريح مقنع، إنما اكتفى بالمعارضة فقط!

تنبيه: الفعل أصالة ليس بشيء، حتى يقال بأنه مخلوق أو غير مخلوق. 

فالفعل هو: حركة الذوات والآثار الناتجة عن هذه الحركات، إن كان لها أثر مخلوق.

والأئمة عندما يقولون: الفعل مخلوق أو غير مخلوق. إنما يعنون الذوات التي صدر منها الفعل، وآثار هذا الفعل. فلا وجود للفعل إذا غابت الذوات، وليس له أثر.

والفعل مثل الزمن، فالزمن لا وجود له ولا أثر له في غياب الذوات التي يتم من خلالها تقدير الزمن.

فالفعل والزمن وما شابهها، هي معانٍ فرضت، لوصف حركات الذوات وآثارها فقط.

إن أصبت فمن الله وحده وإن أخطأت في شيء فمن نفسي والشيطان واستغفر الله وأتوب إليه.

الرد على شبهة من نفى قدرة الله تعالى على العلم بالحوادث قبل وقوعها

وهي طائفة ضالة، زائلة عن هدي الكتاب والسنة، وقد احتجوا ببعض الآيات المتشابهات، جهلاً منهم، أو إصراراً على باطلهم.

فقد احتجوا بقوله تعالى: ﴿إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [آل عمران ١٤٠]

وبقوله تعالى: ﴿وَلِیَعۡلَمَ ٱلَّذِینَ نَافَقُوا۟ۚ وَقِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡا۟ قَـٰتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُوا۟ۖ قَالُوا۟ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالࣰا لَّٱتَّبَعۡنَـٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ یَوۡمَىِٕذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِیمَـٰنِۚ یَقُولُونَ بِأَفۡوَ ٰ⁠هِهِم مَّا لَیۡسَ فِی قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا یَكۡتُمُونَ﴾ [آل عمران ١٦٧]

وبقوله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَیَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلصَّیۡدِ تَنَالُهُۥۤ أَیۡدِیكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَخَافُهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِیمࣱ﴾ [المائدة ٩٤]

وبقوله تعالى: ﴿ٱلۡـَٔـٰنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِیكُمۡ ضَعۡفࣰاۚ فَإِن یَكُن مِّنكُم مِّا۟ئَةࣱ صَابِرَةࣱ یَغۡلِبُوا۟ مِا۟ئَتَیۡنِۚ وَإِن یَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفࣱ یَغۡلِبُوۤا۟ أَلۡفَیۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [الأنفال ٦٦]

ونحو هذه الآيات.

فظنوا أن معنى الآيات أن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه، تعالى الله علوا كبيرا.

والعجيب، أنهم تجاهلوا ما يخالف هذا المعنى من الآيات!

فتأويل الآيات التي احتج بها هؤلاء الضالين، هو أن مراد الله تعالى بقوله: ﴿لِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ﴾ وقوله: ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِیكُمۡ ضَعۡفࣰاۚ﴾ ليس المراد به أن الله تعالى كان يجهل حالهم قبل وقوع الفعل منهم، بدلالة أن الآيات بيّنت أن الله تعالى عليم بكل شيء، بل مراده بذلك علم الفِعَال.

فإن العلم علمان: علم تقدير، وعلم فعال. 

فالله علم ما هم عاملون قبل أن يعملوه، علم تقدير، فلما عملوه، علم أن ما سبق في علمه أنهم عاملوه، قد عملوه. 

هذا هو الحق إن شاء الله في تأويل الآية.

والله أعلم وأحكم

الرد على شبه المتكلمين في القرآن

الشبهة الأولى:

يزعم الجهمية من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية أن القرآن محدث قال تعالى: (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) وكل محدث مخلوق.

والجواب:

أولا: أنا لا نسلّم بأن كل محدث مخلوق، فأفعال الله تعالى ليست مخلوقة، فهي قديمة النوع محدثة الآحاد، فالأصل أن يستدل بالآية على أن من المحدثات ما ليس بمخلوق، فأفعال الله وإن كانت حادثةً فهي ليست مخلوقة، فالله خالق وليس بمخلوق، وكل ما يصدر منه ليس بمخلوق.

ثانيا: الآية مختلف في تأويلها، فعن قتادة، أن المراد بالذكر، القرآن "انظر تفسير الطبري وتفسير ابن أبي حاتم" وعن مقاتل، أن الذكر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّنه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن، وأضافه إلى الرب عز وجل؛ لأنه بأمر الرب "انظر تفسير البغوي" وفي تأويل أخر، أن المراد بالمحدث هو التنزيل، فتنزيل القرآن يحدث فترة بعد فترة، وهو الراجح في تأويل الآية.

الشبهة الثانية:

احتجاجهم بما رواه مسلم وغيره عن أبي أمامة الباهلي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ. قالَ مُعاوِيَةُ: بَلَغَنِي أنَّ البَطَلَةَ: السَّحَرَةُ. 

وفي رواية: غيرَ أنَّه قالَ: وكَأنَّهُما في كِلَيْهِما، ولَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ مُعاوِيَةَ بَلَغَنِي.

والجواب:

أن علماء الإسلام وأئمة أهل السنة بيّنوا أن المراد بذلك أنه يأتي ثوابهما.

قال الإمام أبو عبيد، القاسم بن سلام رحمه الله، في فضائل القرآن ومعالمه وآدابه: "يعني ثوابهما" اهـ.

وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله.

وقال ابن قتيبة الدينوري، في تأويل مختلف الحديث، ما نصّه: "قالوا أحاديث تدل على خلق القرآن قالوا رويتم قلب القرآن يس وسنام القرآن البقرة وتجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو خرقان من طير صواف ويأتي القرآن الرجل في قبره فيقول له كيت وكيت وهذا كله يدل على أن القرآن مخلوق ولا يجوز أن يكون ماله قلب وسنام وما كان غمامة أو غياية غير مخلوق قال أبو محمد ونحن نقول إنه قد كان ينبغي لهؤلاء إذا كانوا أصحاب كلام وقياس أن يعلموا أن القرآن لا يكون حسما ولا ذا حدود وأقطار وإنما أراد بقوله سنام القرآن البقرة أعلاه كما أن السنام من البعير أعلاه وأراد بقوله قلب القرآن يس أنها من القرآن كمحل القلب من البدن وأراد بقوله تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أن ثوابهما يأتي قارئهما حتى يظله يوم القيامة ويأتي ثوابه الرجل في قبره ويأتي الرجل يوم القيامة حتى يجادل عنه ويجوز أن يكون الله تعالى يجعل له مثالا يحاج عنه ويستنقذه.. والقرآن نفسه لا يكون رجلا ولا جسما ولا يتكلم لأنه كلام ولو أمعن هؤلاء النظر وأوتوا طرفا من التوفيق لعلموا أنه لا يجوز أن يكون القرآن مخلوقا لأنه كلام الله تعالى وكلام الله من الله وليس من الله عز و جل شيء مخلوق" اهـ.

وقال الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه: "ومعنى هذا الحديث، عند أهل العلم، أنه يجيء ثواب قراءته، كذا فسَّر بعض أهل العلم هذا الحديث وما يشبه هذا من الأحاديث، أنه يجيء ثواب قراءة القرآن، وفي حديث النواس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدل على ما فسَّروا، إذ قال النبي صلى الله عليه و سلم: وأهله الذين يعملون به في الدنيا. ففي هذا دلالة أنه يجيء ثواب العمل" اهـ.

وقال الإمام إبراهيم بن إسحاق الحربي رحمه الله في غريبه: "قوله: كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ يُظِلاَّنِ مَنْ كَانَ يَقْرَؤُهُما نُسِبَ الفِعْلُ إِلَيْهِمَا. وَإِنَمَا المَعْنَى لِثَوَابٍ يَفْعَلُهُ اللُّه بِمَنْ يَقْرَأُ بِهِما لِقَوْلِهِ ظِلُّ المُؤْمِنِ صَدَقَتُهُ يقول: ثَوَابُ صَدَقَتِهِ" اهـ.

وقال الإمام البزار رحمه الله في مسنده: "وإنما معنى "يجيئان يوم القيامة" يجيء ثوابهما، كما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن اللقمة لتجيء مثل أحد" وقال: "ظل المؤمن يومئذ صدقته " فإنما هذا كله على ثوابه". اهـ.

وقال الإمام أبو عوانه رحمه الله في مستخرجه: "قال أبو عبيد في قوله "يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان": إنما هو الثواب. وهو بيّن في الكتاب والسنة؛ أما في الكتاب فقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، يريد به الثواب {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}. فيرون لو أنَّ رجلًا أطعم مسكينًا رغيفًا يراه بعينه أو ثوابه، وأمّا السنة، فقوله عليه السلام: "من عال ثلاث بنات كُنَّ له حجابًا من النار". معناه الثواب، لا أنهن يكن له حجابا من النار" اهـ

وجميع من ذكرت أسمائهم، هم أئمة السنة من الرعيل الأوّل.

ما هو أكمل تعريف للشرك؟

أشمل وأكمل تعريف للشرك، هو تعريف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: "أن تجعل لله نداً".

والندّ في لغة العرب هو المثيل، والمراد به هنا المماثلة في الصفات، سواء ماثلة في جميع صفاته أو في صفة واحدة.

فالشرك أن تجعل لله مثيلاً في ربوبيته أو ألوهيته أو كمال صفاته.

وهو على نوعين:

النوع الأول: اعتقاد أن هناك من هو ندّ لله تعالى في ملكه أو خلقه أو أمره ونهيه أو استحقاقه للعبادة أو كمال الصفات، استقلالا من دون الله تعالى.

النوع الثاني: اعتقاد أن هناك من أشركه الله تعالى معه في ملكه أو خلقه أو أمره ونهيه أو استحقاقه للعبادة أو كمال الصفات.

والشرك الذي وقع فيه العرب قبل الإسلام، وقع في اعتقادهم أن الله تعالى أشرك الملائكة وعظماء الجن والإنس والأوثان معه في أمره ونهيه، لما لهم من مكانة عنده، ولذلك اتخذوهم وسطاء وشفعاء لهم عند الله، فصرفوا لهم شيئاً من العبادة، كالدعاء والذبح والنذر، وزعموا أنهم يدعون هذه المعبودات من دون الله ويتقربون إليها بالذبح والنذر، لتقوم هذه المعبودات بالشفاعة لهم عند الله تعالى ليقضي حوائجهم، وفي اعتقادهم أن الله تعالى لا يمكن أن يرد لهم طلباً، وأنه يسعى في مرضاتهم، بدل أن يسعوا هم إلى مرضات الله تعالى!

وهذا الشرك، هو الذي وقع فيه مشركوا الصوفية والشيعة بالتمام والكمال.

كما أشركوا بالله تعالى في كمال بعض صفاته، كصفة العلم، فجعلوا معبوداتهم مماثلة لله تعالى في هذه الصفة، وزعموا أن الله تعالى هو من جعلهم مماثلين له في هذه الصفة.

وكذلك في القدرة، حيث جعلوا قدرة معبوداتهم من دون الله تعالى مماثلة لقدرة الله تعالى، ولذلك هم يعتقدون أن الملائكة وعظماء الجن والإنس، قادرون على أن يحيطوا بكل شيء علما، وأنهم قادرون على غوثهم وإجابة سؤلهم. 

بل إنهم يثبتون لمعبوداتهم من دون الله من كمال الصفات، ما لا يثبتونه لله تعالى، مثل: سماع الأصوات وإن بعدت ورؤية جميع المرئيات وإن بعدت، ويرون أن هذا من كمال صفاتهم، بينما يجردون الله تعالى من هذه الصفات!

الفرق بين مذهب أهل السنة ومذهب المرجئة والخوارج. وهل كان الإمام محمد بن عبدالوهاب خارجياً؟

حتى نستطيع معرفة الفرق بين أهل السنة ومخالفيهم من المرجئة والخوارج، يجب علينا أولا أن نعرف مكمن الخلاف بين هذه الفرق.

فالخلاف بينهم وقع في باب الإيمان بين مستهتر مقصر وغالٍ متشدد ووسط سالك للسبيل.

وحتى نعرف مذهب أهل السنة والجماعة في باب الإيمان ومذهب مخالفيهم من المرجئة والخوارج. فيلزمنا أن نقسم مسائل الدين في باب الإيمان إلى أصول وفروع.

ونعرّف أصول الدين: بأنها كل مسألة حكم الشرع بكفر المخالف فيها سواء اشترط قيام الحجة أو لم يشترط.

ونعرّف فروع الدين: بأنها كل مسألة حكم الشرع بفسق المخالف فيها دون أن يحكم بكفره.

فالمرجئة يجعلون أصول الدين كفروعه، ويعطونها حكماً واحداً وهو الفسق فقط.

والخوارج يجعلون فروع الدين كأصوله، ويعطونه حكماً واحداً وهو التكفير.

وأما أهل السنة والجماعة فيفرقون في أحكامهم بين أصول الدين وفروعه.

فمن وقع في مخالفة مكفرة لا يشترط فيها قيام الحجة، كفروه.

ومن وقع في مخالفة مكفرة يشترط فيها قيام الحجة، لم يكفروه حتى يقيموا عليه الحجة.

ومن وقع في معصية دون الكفر، لم يكفروه، بل فسّقوه فقط.

وما هي مسائل أصول الدين التي لا يشترط فيها قيام الحجة؟

الجواب: هي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.

ويشتمل توحيد الربوبية على : توحيد الملك وتوحيد الخلق، وتوحيد الأمر والتدبير.

وما هي أصول الدين التي يشترك فيها قيام الحجة؟

الجواب: صفات الله تعالى، وإنكار فرض من فرائض الله، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال.

وما هي فروع الدين؟

الجواب: هي كل ما تبقى من مسائل الدين.

فالإمام محمد بن عبدالوهاب لم يكفر إلا من خالف في أصل من أصول الدين، بل إن الإمام محمد يجعل جميع أصول الدين مستلزمة لقيام الحجة، وهو مخطئ في هذا ولا شك، ولكن خطئه هذا يجعله بعيداً كل البعد عن مذهب الخوارج.

والحقيقة أن أكثر المنتسبين للمنهج السلفي - بما فيهم من ينسب لمذهب الخوارج - وقعوا في الإرجاء، وهم في ذلك درجات، فليسوا على درجة واحدة من الإرجاء. 

والإرجاء مذاهب، ولكن منها طائفة تقر بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد ويزيد وينقص، ولكن هذا الإقرار لفظي فقط، حيث أنهم لا يحكمون على من وقع في مخالفة في أصول الدين بالكفر وإن أقاموا عليه الحجة، ووضعوا شروطا وموانع أشبه ما تكون بالحيل التي يحتالون بها لدفع الأحكام الشرعية، وهذا النوع من الإرجاء هو إرجاء السلفية المعاصرة، والتي نشأت أوّل مرة في القرن الرابع الهجري وما زالت تنتشر حتى طغت على أكثر المنتسبين للمدرسة السلفية، وزاد الطين بلة أن الشيخ أحمد بن تيمية عفا الله عنه، أسس لها وقعد في كتبه، مما جعلها أصلا أصيلا ومتينا عند السلفية لا ينفكون عنه، ويحكمون بناء عليه على مخالفيهم. "راجع منشوراتي عن شروط وموانع التكفير"

تاريخ نشأت أهل الكلام

 تاريخ نشأت أهل الكلام

(الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية)

تجدون هذا في هذه المدونة التي جمعت فيها تاريخ هذه الجماعة الضالة منذ نشأتها وحتى اكتمل بنائها

وأهم عقائدها الخبيثة سواء ما يخفونه عن الناس وتنطق بها ألسنتها

والرد عليها بالأدلة

https://bydatalthytan.blogspot.com/